وأريد أن ألفت النظر إلى أسلوب القرآن الكريم في هذه الأمثلة التي يخرج فيها المعنوي في صورة المحسوس، ففي هذه الآية قال: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ} فيجعلك تسرح بخيالك عند وضع الحبة وانفلاقها، وارتفاعها وسقيها، وظهور الأوراق الخضراء، ثم تفرعها إلى سنابل، وكل سنبلة فيها مائة حبة، وهكذا يمر على ذهنك شريط إيحاءات وتأملات تستوقف كل مؤمن أمام عظمة صاحب هذا الكتاب سبحانه وتعالى.
فالقرآن الكريم يوقف الشخص عند تلك التعبيرات، ويجسد له الصورة، مثلاً: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] ، يضرب الله مثلاً للذي يدعو غيره فلا يستجيبون له، كمثل من وقف على حافة بئر، وفتح فاه ليبلغه الماء، فهل سيبلغه شيء؟! لن يصله شيء ولو انتظر عمره كله.
ومثال آخر قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] ، فليست هذه الصورة مثل قوله لو قال: (لا تنفعهم عبادة أصنامهم بشيء) ، فهنا جسد وجعل المعنوي في صورة المحسوس،.
والخضر مع موسى عليهما السلام، بعد نهاية الرحلة ومعرفة الجواب على الأسئلة، لم يقل لموسى: علمي بالنسبة لعلم الله لا يساوي قطرة من بحر، إنما أرسل الله عصفوراً، ووقف على حافة السفينة، ومد منقاره وشرب من البحر، فقال الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر.
الخلاصة: أن المؤمن بالله حقاً إذا تصدق كانت صدقته برهاناً على صدق إيمانه بالله، وأن العوض ينتظره يوم القيامة، ومن هنا كان المؤمن كلما قوي إيمانه ويقينه وتصديقه، كلما كان أشد إخفاءً لصدقته عن الناس، لأنه ليس له معهم غرض، ولا ينتظر منهم شيئاً، بل يخفيها على من تصدق بها عليه، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .