سورة العصر يوصي الله فيها عباده المؤمنين، فيقول: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] ، وهل هو وقت صلاة العصر؟ لا، بل المراد به الزمن كله، وهذا أعم وأشمل؛ لأن العصر بمعنى الزمن الذي تقع فيه الأحداث، وفيه الدورة الكونية المتجددة التي ما انتهت إلا وبدأت دورة أخرى، وفيها تعاقب الليل والنهار، وتكرار الجديدين، وأمم تمضي وأمم تأتي ونبات ينبت وثمرة تثمر وإنسان يولد وآخر يموت وعالم البحار والأشجار والأنهار والعالم كله مدروج في ظرف الزمان والمكان، فقوله: {وَالْعَصْرِ} يبين ما في الزمن من آيات تبين قدرة الله سبحانه وتعالى.
قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] ، وقد أشرنا -أيها الإخوة- أن مبحث القسم في كتاب الله معجزة، وليت من يتصدى لها ويتتبعها، فما من قسم في كتاب الله ومقسم عليه إلا وبينهما ارتباط ومناسبة قوية جداً، وهنا: العصر من حيث هو زمن، سواء كان زمناً كلياً مطلقاً أو زمناً جزئياً محدوداً، فيقسم سبحانه بهذا الزمن الذي هو محل العمل والكسب، والشخص إذا عمل لا يخلو عمله من أحد أمرين: إما أن يكسب في عمله وإما أن يخسر، وإن أعظم خسران للعبد هو في عمره، فهو رأس ماله في حياته، إن اكتسب فيه خيراً فهو رابح، وإن اكتسب فيه شراً فهو خاسر، وتقدم الحديث الذي فيه: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) .
إذاً: أعظم خسران على الإنسان أن يضيع جزءاً من عمره، ولا يسلم من هذا الخسران أحد قط ولو كان تاجراً رابحاً: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ، فالتاجر إن ربح مال الدنيا فلن يصل إلى غنى قارون، وإن ملك وتسلط فلن يصل إلى ملك فرعون، ولا إلى ملك النمرود الذي كان في عهد إبراهيم عليه السلام، وكما يقال: (ما ملك الدنيا إلا رجلان: أحدهما مسلم، وهو النبي سليمان، والآخر كافر، وهو النمرود) ، وهذا ذو القرنين مكن الله له في الأرض، وأعطاه من كل شيء سبباً، وكل ذلك مضى وانتهى، ولكن الكسب الحقيقي هو ما بين سبحانه: (الإيمان وعمل الصَّالِحَاتِ) ؛ لأن الكسب المادي مدته مدة حياته، فإذا انقضت الحياة انتهى ذلك الكسب والملك، والحياة الحقيقية هي الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .
إذاً: الكسب الحقيقي والسلامة من الخسران حقاً هو بالإيمان والعمل الصالح: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ومن الصالحات ما أفرد وخص في هذه السورة الكريمة: (وَتَوَاصَوْا) أي: يوصي بعضهم بعضاً، وفي هذا أهمية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن كلاً من المؤمنين يوصي الآخر، وبأي شيء يتواصون؟ (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) ، وفيه كل الخير في الدنيا والآخرة، وفيه كتاب الله وسنة رسوله، وما بعد الحق إلا الضلال، فإذا تواصوا بالحق وتناهوا عن المنكر: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ، وفيها إشارة إلى أن كل من تمسك بالحق، وقام يدعو إليه، ويوصي الناس به، فلابد أن يصيبه ما يحتاج إلى الصبر معه، ويقول الله سبحانه في الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:33-34] ، فالحسنة تكون من جهة الداعي إلى الله، ومن أين تكون السيئات التي تأتي إلى الداعي إلى الله؟ تأتي ممن يدعوهم إلى الخير ولا يهتدي في بادئ الأمر.
ثم يقول الله في آخر السياق: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] ، وهنا يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
إن هذا الحديث بما فيه من ذكر الوصية بالذات، يجمع كل خير في الدنيا، وكل تشريع إسلامي يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا بلاغة البلغاء، وكما يقول الراوي: (كأنها موعظة مودع) ، والمودع يختصر القول؛ لأنه مقبل على سفر؛ فلذا جمع صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يلقيه إلى الأمة في تلك اللحظات الحرجة، وبين ما طلبوه في هذه الكلمة (أوصيكم) أي: استجابة لطلبكم أوصيكم، وحينئذ تنفع الوصية، وتقع وتستقر في القلوب؛ لأنهم هم الذين طلبوها منه.