نرجع إلى الماضي البعيد وإلى التاريخ التليد إلى تلك الحالة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تنبهت قلوبهم، وعلموا بحقيقة الموقف، وأدركوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كأنها موعظة مودع -يا رسول الله- فأوصنا! هذا هو المطلب الحقيقي، وهذا هو الفقه والإيمان الحقيقي، أدركوا حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم المغايرة للحالات السابقة معهم، فأجابهم فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، وقد أشرنا إلى أهمية الوصية ومنزلتها في الإسلام ,وأنها لا تنطلق إلا عن شفقة ورأفة من الموصي إلى الموصى إليه، والصلة القوية بين (وصى) و (وصى له) ، كلاهما فيه صلة معنوية أو حسية، والإسلام بكامله يأتي بالوصايا، بل أفرد الله تعالى سورة في بيان أهمية الوصية فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ، حتى إن الشافعي رحمه الله يقول: لو لم ينزل على الناس إلا سورة العصر -أي: في التوجيه والإرشاد والنصح- لكفتهم هذه السورة.
والمولى سبحانه يوصي عباده، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] ، وكذلك جبريل عليه السلام يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال بعض الأنصار: (جئت مع قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدناه قائماً ومعه رجل يحادثه، فأطال القيام معه حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، فلما انصرف عنه الرجل قلت: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي أطال القيام معك؟! لقد أشفقت عليك من طول القيام! قال: هل رأيته؟! قلت: نعم، قال: هذا جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، فجبريل يوصي رسول الله في حق الجار.
وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوصاني جبريل بالسواك) ، وقال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ، وكذلك حديث: (إن ربي أوصاني بخمس) ثم ذكر صلة الرحم، وأشياء عديدة، ولقد ألممنا بكثير من الوصايا فيما جمعناه في كتاب (من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم) ، مثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بقوله: (أوصاني خليلي بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام) وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال له: (إنك رجل ضعيف فلا تطلب الإمارة) ، فأوصاه أيضاً بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والنوم على وتر، وقال له: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) ، والأحاديث كثيرة في باب الوصية، ومن تتبعها وجد حقاً أن الإسلام قد جاءت فيه الوصايا من جميع النواحي.