الإيمان في القلب كنور السراج داخل السراج، وكلما أديت العبادة لله كلما ازداد نور السراج، كما ضرب الله مثلاً للنور في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: زيتها صافٍ معتدل، لا شرقية تسطع فيها الشمس من الصباح، ولا غربية من الزوال إلى الغروب، ولكن بين بين، تأخذ من ضوء الشمس ما يكفيها، ولا تتأثر بحرارتها، فتكون أطيب زيتاً، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور الفطرة، ونور العمل الصالح يذكيان هذا السراج، فإذا أذنب ذنباً نكت فيه نكتة سوداء، فإذا أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى، وهكذا حتى يتغلف القلب، كما قال الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، ولا يزيل هذا الران، وينقي تلك النكت السوداء إلا حرارة الندم، والتوبة، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
والقلب حينما يكون على الفطرة وعلى الحالة الأولى، إذا عرض له شيء تكون حساسيته شديدة، وقد يسميها بعض الناس: الحاسة السادسة، ونحن نسميها: حاسة الإيمان، وحاسة اليقين، فنور البصيرة تضيء للعبد طريقه.
ومن أمثلة الحاسات المعنوية التي لا ندرك كنهها، قصة الصديق رضي الله تعالى عنه عندما جاءه غلامه بطعام، فاستنكر الطعام، طعام يأتيه غلامه به فيستنكر هذا الطعام! ليس فيه مرارة ولا ملوحة ولا حرارة ولا حريف ولا شيء؛ لكن أحس أن فيه شبهة، عنده حساسية حلال وحرام، ليس حساسية حلو ومر وحامض ومالح، بل حساسية حلال وحرام، وجسم الإنسان ليس فيه خلايا الحلال والحرام، لكن فيه خلايا الذوق في طرف اللسان، فيميز الحلو والمر والمالح والحامض وكل شيء بطرف اللسان فقط، لكن الجسم ليس فيه خلايا حلال وحرام، لكن نور الإيمان هو الذي يبصرها، فقال للخادم: من أين هذا الطعام الذي جئتني به؟! انظروا! (الإثم ما حاك في الصدر) ، فقال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل ووعدني بكهانتي، ووالله! ما كنت أعرف الكهانة، ولكني نصبت عليه، فلقيني فأعطاني، فاشتريت به هذا الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، (ونهى عن حلوان الكاهن) ، فكيف ينهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم يشتري به لـ أبي بكر؟ فاستقاءه أبو بكر، وأخرجه من بطنه! وكذلك عمر لما جاءه غلامه بحليب، فاستنكر طعم هذا الحليب، وقال: من أين هذا؟ فقال: أرسلتني لآتيك بحليب من إبلك، فذهبت فإذا الراعي قد أبعد، فوجدت في طريقي إبل الصدقة، فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فهذا حليب من إبل الصدقة، وعمر لا تحل له الصدقة، فوضع أصبعه في جوفه فتقيأ! نرجع إلى الحديث، قوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) الطمأنينة متى يرجع إليها؟ يرجع إليها حينما لا يكون نص في المسألة، أما عند النص فلا.
وما هي النفوس التي ينظر في طمأنينتها؟ هي النفوس المؤمنة؛ ولهذا قال في المقابل: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، وبعض الأشخاص يرتكبون الأعمال السيئة، ولا يستترون من الناس أو فيما بينهم، ولو فعل أحدهم شيئاً من المنكر، وكان معه بعض زملائه الذين على شاكلته، لا يكره أن يطلعوا عليه، حتى أن بعضهم لم يطلع عليه أحد ثم يأتي ويتفاخر بالمعصية عند زملائه عياذاً بالله! فيحكي بعضهم لبعض ماذا كان من أمرهم، يسافر أحدهم إلى بلد ما للمعصية، ويستر الله عليه، ثم يأتي لزملائه وأمثاله فيخبرهم بما صنع، ولا يستحي منهم، وفي الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالمسلم يستحي مِن أهل الحياء، ومن أهل المروءة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استح من الله كما تستحي من رجلين من ذوي المروءة من قومك) .
فقوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) أي: إذا لم يكن في المسألة نص، وترددت المسألة بين الحلال والحرام، فلينظر هل تطمئن النفس بفعل ذلك أم لا؟