إذاً: حينما يكون الأمر فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله، فليس لاستفتاء القلب محل، ولا لاستفتاء عالم من العلماء مدخل؛ لأن النص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي على ذلك، ولكن إذا لم يكن في الأمر نص، من الحوادث التي تتجدد، أو أن النص مجمل، أو يوجد نص آخر يعارضه في الظاهر، ولا تستطيع الجمع بين النصوص، ولا معرفة الراجح، ولا يعرف ذلك إلا النقاد الحذاق من العلماء الذين جعل الله في قلوبهم شفافية، فهنا إذا كنت في أمر خفي لم يطلع عليه أحد، (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، مثلاً: يتخاصم اثنان إلى القاضي، والله يعلم المحق من المبطل، والقاضي بشر قد يخطئ، وقد قال سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما سمعت، فمن حكمت له أو قطعت له شيئاً من حق أخيه إنما أقتطع له قطعة من النار!) ، فقد يدخل خصمان على الحاكم، وهو لا يعلم الغيب، فيأتي أحدهما بشهود زور، أو بينة مزورة، ويقضي القاضي بظاهر الأمر، والقاضي لا يحكم حتى بعلمه، فيحكم القاضي، والخصمان هما اللذان يعلمان حقيقة الأمر، وهل الحكم حق أم لا، والقاضي معذور في حكمه بالظاهر، فإن: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، فإذا خرج الخصمان بحكم صدر من القاضي، والمحكوم له يعلم يقيناً في قرارة نفسه أنه مبطل، فهل يحق له أن يأخذ ما حكم به القاضي؟ لا، وحينها يستفتي نفسه، فهل تطمئن نفسه إلى ما حكم به القاضي؟ لا والله! فهو يذهب إلى البيت ولا يستقر قراره؛ لأنه أولاً كان ظالماً، والآن هو ظلوم وظلام، أول الأمر كان يظلم نفسه، ويظلم خصمه، والآن ظلم القاضي وظلم الشهود، ولذا يقول العلماء جميعاً ما عدا الأحناف: حكم الحاكم لا يحل حراماً، وعند الأحناف أنه إذا قضى الحاكم فالمحكوم له الظاهر، لكن إذا كان يعلم في حقيقة الأمر أن المال ليس حقه، فكيف نقول حكم الحاكم يحله له؟! والله! لا تهضمها النفس أبداً.
إذاً: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) .
ورجوع الإنسان إلى قلبه، على أي ميزان يكون؟ لا يوجد مقياس مليمتري، ولا ميزان بالدرهم والشعرة والذرة، لا، إنما يرجع في ذلك إلى نور الإيمان في قلب المؤمن، وإلى الفطرة التي فطره الله عليها، والفطرة إن تركت على ما كانت عليه، فهي تهدي إلى الخير، أما إذا اعترتها العوارض، واجتالتها الشياطين، فلا يرجع إليها، وقد جاء في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم) ، فعند ذلك تأتي الشبهات، ويأتي أكل الحرام، ويغلف هذا القلب، ويطمس هذا النور.
حينما قال سعد بن أبي وقاص: (يا رسول الله! سل الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك) ؛ لأن الجسم ينبت على الطعام، فإذا كان الطعام حلالاً نبت الجسم شفافاً، ليس كالزجاج، ولكن لا يكون كثيفاً بالظلمات، فيكون القلب على فطرته ونوره كما جاء في الحديث.