والأحاديث بهذه الطريقة قد تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقوية ليقين السائل، وإظهاراً للمعجزة لأحد الحاضرين ممن تكون عنده بعض الشبه، أو عنده بعض الترددات، فيأتي مثل هذا الأسلوب فيذهب ما في نفسه، ويقوى يقينه، ويجعل عند الناظر أو السامع زيادة إيمان ويقين بالله.
وقد روي: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وأصحابه يأكلون، فقال: أنت محمد بن عبد الله؟ قال: نعم، قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: من يشهد لك أنك رسول الله؟ قال: القصعة التي تأكل منها، فرفع القصعة إلى أذنه فسمعها تسبح الله، وتشهد الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله! فقال: والله! إنها لتسبح، وإنها لتقول: كذا وكذا! فقال رجل آخر: أسمعنيها يا رسول الله! فقال: سمّعه، فأخذها وسمعها، فقال ثالث: أسمعنيها؛ فقال: لا، يكفي شاهدان، حطها) .
فـ وابصة أتى وافداً مع قومه، فصار يزاحم حتى يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أن آداب المجلس تمنع من المزاحمة، ولكن للعاطفة وللشعور أحكام فوق الآداب كما يقولون، وقد ثبت أنه جاء نفر ثلاثة إلى مجلس رسول الله صلى عليه وسلم، فرجل وجد فرجة فجلس، ورجل استحى أن يزاحم الناس فجلس من ورائهم، ورجل لم يجد مكاناً فمشى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) .
ونذكر قصة وفد عبد القيس، وهم من الخليج من نهاية الجزيرة من الشرق أو الشمال الشرقي، يسافرون الشهر والشهرين، فلما وصلوا المدينة، إذا بالوفد سرعان ما نزلوا عن رواحلهم، وتركوها وأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أميرهم أشج عبد القيس يتريث، ويجمع الإبل ويعقلها، ويجمع المتاع ويسفطه، ثم يعمد إلى عيبته فيخرج أحسن ثيابه، ثم يغتسل ويلبس الثياب الطيبة، ثم يمشي على تؤدة بعد أن وصل أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوقت طويل، فيأتي على طمأنينة، فيجد القوم قد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً أفسح له بجواره، وقال: (إنك امرؤ فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة -فانتهزها فرصة- وقال: يا رسول الله! خلق تخلّقت به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يرضي الله ويرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فكان الوفد واحداً، ولكن جلهم ما استطاعوا الصبر؛ لأن قلوبهم جياشة بالعاطفة لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد سفر شهرين، وأحدهم استطاع أن يضبط أعصابه، وأن يتحكم في عاطفته، فأتى بتأنٍ.
فهذا وابصة يتخطى الناس، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه قال: (جئت يا رسول الله! وأنا أريد ألا أدع براً ولا إثماً إلا سألت عنه، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بادره رسول الله فقال: تخبر أم أخبرك أنا؟) ، وهذا من المعجزات التي كانت تتجدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات وابصة أنه قال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أصابعه الثلاث -ولم يذكر لنا أحد كيفية جمعها- ودفع بها في صدري وقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس) إلى آخر الحديث، ودفعه في الصدر تنبيه للقلب.
وهذا الحديث برواياته يدل على مدى شفافية قلب المؤمن، ومدى إشعاع نور الإيمان والبصيرة في قلبه، وهو يرد الإنسان المؤمن حقاً إلى فطرته التي فطره الله عليها، ولذا جاء في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) .