هذا الحديث من أقوى الأدلة في مشروعيتها، وأنصح إخواني الطلبة أن يرجعوا إلى التمهيد في الجزء الثامن، فإن ابن عبد البر استوفى هذا البحث إلى أقصى حد، في الحديث الذي رواه مالك عن أم المؤمنين عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى قط) .
انظروا إلى هذا التصريح: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح -يعني تنفل- سبحة الضحى قط) يعني: نافلة الضحى، أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة تقول هذا! بينما جاء عن أم هانئ في الصحيحين قالت: (عام فتح مكة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به يغتسل وفاطمة تستره، فسلمت، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، وقالت: إن علياً يزعم أنه قاتل فلاناً وقد أجرته، فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ! فلما قضى غسله التحف بملحفة وصلى ثمان ركعات) وعند بعض رواة الحديث من أهل السنن: (سألته: ما هذه الصلاة يا رسول الله؟! قال: الضحى) .
بعض العلماء يقول: إنها صلاة شكر على الفتح، وخالد بن الوليد أحياناً كان يصليها إذا فتح الله عليه مدينة من المدن.
وقد تنازع العلماء في مشروعية الضحى؛ لأن أم المؤمنين وهي أقرب الناس إليه، وأعرف بصلاته في الداخل تقول: (ما رأيت) .
وقيل لـ عبد الله بن عمر: أعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى؟ قال: لا، ولا أبا بكر ولا عمر! ولكن مالك رحمه الله يتمم حديث عائشة وأنها قالت: (وإني لأسبحها) ، وفي رواية: (وإني لأحبها) ، وفي رواية: (ولو بعث لي أبواي ما تركتهن) .
فكيف الجمع بين قولها هذا وقولها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط) ؟ ورد في بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحبه كراهية أن يفرض على الناس) .
وأحسن من تكلم على هذه المسألة صاحب كتاب: (طرح التثريب) ، فقد ذكر حوالى عشرة أوجه في الإجابة عن قول عائشة، والجمع بين قولها: (ما رأيته قط) ، وقولها: (وإني لا أتركها ولو بعث لي أبواي) .
قالوا: لم تره، وإنما بلغها.
وقال بعض الناس: عائشة كانت تاسعة تسع من زوجات رسول الله، فليس بلازم في كل نوبتها أن يصلي، ولعله كان يصليها عند غيرها، ولكن ابن عبد البر يضعف هذا الوجه.
إذاً: كان يخفي أمرها مخافة أن تشتهر عند الناس، وتفرض عليهم، وبعد أن أنتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أمن جانب الفرضية، كما وقع في قيام رمضان، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ودخل بيته، ثم قام من الليل إلى المسجد فصلى في رمضان في الليل، وكان بعض الناس في المسجد فصلوا خلفه، فلما كان من الغد صلى العشاء ودخل، فتسامع بعض الناس، فانتظروا بعد الصلاة ولم ينصرفوا، وخرج صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل في رمضان فصلوا خلفه، وفي الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة جميعاً أن رسول الله صلى في الليل، وصلى وراءه أقوام، فلما صلوا العشاء ودخل صلى الله عليه وسلم بيته، ما قام إنسان من مكانه، ومكثوا ينتظرون خروج رسول الله، فلما جاء وقت خروجه قال لـ عائشة: ما بال الناس مجتمعين؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى.
قال: وماذا ينتظرون؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى أقوام بالأمس وقبله، فلم يخرج، فأخذوا الحصباء ورموا باب الحجرة، فما خرج إلى صلاة الصبح وقال لهم: ما خفي عليّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فلا تستطيعون) .
فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وهو يعلم أنهم منتظرون مخافة أن تفرض عليهم فيعجزون عنها.
ثم في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه نظّم التراويح على إمامين، أحدهما أبي بن كعب، وأمره أن يصلي بالناس أولاً ثمان ركعات، ولكن كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وربما انصرفوا قبل أن ينادي المؤذن للفجر، فجمع القراء، وكلف سريع القراءة أن يقرأ بثلاثين آية في الركعة، وبطيء القراءة أن يقرأ خمساً وعشرين آية في الركعة، وخفف من القراءة، وزاد في عدد الركعات، وجعلها عشرين ركعة، واستمر الأمر على ذلك من عهد عمر إلى اليوم.
ويهمنا أن عمر لما أمن الفرضية -لأنه لا فرضية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- نظّمها، كما أن بعض السلف قال: الصلوات خمس، أي: لا سادسة، وهي الضحى، فقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يخفيها لئلا يتتابع عليها الناس؛ مخافة أن تفرض عليهم، فلما كان الأمر كذلك، وعلمت صلاته صلى الله عليه وسلم لها في مكة، قالوا: هذه سنة، وشكر للفتح.
ويروون عن الطبري أنه قال: أنه جاءت فيها أحاديث تعادل التواتر، ولكن لم نقف على ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فعلى طالب العلم أن يبحث هذا، إلا أنه جاء في الصحيحين عن أبي هريرة تارة، وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنهما تارة، أبو ذر يقول: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى) ، وكذلك أبو هريرة قال: (أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن ما حييت: صيام ثلاث أيام من كل شهر، ولا أنام إلا على وتر، وأن أصلي ركعتي الضحى، فأنا أصليهن في الحضر وفي السفر) .