بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: روى مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وفي بعض النسخ: (ركعتي الضحى) يعني: صلاة ركعتي الضحى.
والبحث هنا في جانبين: كون النبي صلى الله عليه وسلم جعل مكان تلك الأنواع من الصدقات ركعتي الضحى، والمطلوب ثلاثمائة وستون صدقة، فكأن الحديث يقول: صلاة ركعتي الضحى تعادل ثلاثمائة وستون صدقة.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الصلاة من حيث هي عوضاً عن فقد النقد والمادة، بينما القرآن يجعل العوض الصوم؛ لأن المولى سبحانه جعل في كفارة الظهار عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] أي: ستين يوماً، وفي كفارة اليمن عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] ، وفي كفارة القتل خطأً: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وفي كفارة الظهار عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً بالترتيب.
فالقرآن اعتبر الصوم محل المادة في العجز بل إنه يجبر العجز في الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة:196] ، ما قال: طواف ستين أو سبعين شوطاً، بل قال: {فَصِيَامُ} [البقرة:196] ، فجعل الصوم مكان هدي التمتع.
إذاً: في نصوص القرآن نجد الصوم نيابة عن المادة في تصحيح الحج بالصوم عن دم الهدي.
حتى أيضاً في فدية الأذى، في حلق الشعر، وهو من محظورات الإحرام، حمل كعب بن عجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة هوام رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن بلغ بك الأذى ما أرى) ، ومما ذكر له: (صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين) ، وكل ذلك فيما يتعلق بالدماء إن عجز عنها.
وإن أتينا إلى أمور الأسرة، وإلى الظهار، وإلى كفارة الظهار: وجدناها صوم شهرين، وإذا جئنا إلى كفارة اليمين وجدنا صوم ثلاثة أيام، وإذا جئنا إلى كفارة القتل خطئاً عوضاً عن عتق رقبة وجدنا صيام شهرين، فباب المادة والمال نجد أن العوض عنها الصوم، وهنا المطلوب صدقة، فإذا عجزوا عن الصدقة لم يرشدهم إلى الصوم كما جاء في القرآن.
فالسؤال الأول: ما الفرق بين الصوم في البدل ونيابة المادة في كتاب الله وبين الصلاة من حيث هي؟ أرجو من الإخوة طلبة العلم أن يبحثوا فيه، فإني لم أجد في ذلك إلا ما يوحي به بعض كلمات الشراح من أن الصدقة عن الأعضاء تعوز المتصدق إلى المال، والصدقة مطلوبة هنا عن جسم الإنسان، فقيل: إن الصلاة هنا بدل من الصوم أو غيره؛ لأننا نريد زكاة هذا البدن شكراً لله على ما فيه من نعم، فإذا قمت وصليت لم يبق عضو في الجسم إلا تحرك شكراً لله.
فإذا مشيت من البيت إلى المسجد خطوت إلى المسجد، وإذا وقفت في المحراب أو استقبلت القبلة وحركت يديك وقلت: (الله أكبر) ، نطق لسانك، وتحركت يديك، وانثنى صلبك، وارتفعت، وسجدت، وقامت جميع أعضاء الجسم، فتلك السلامى كلها تحركت في شكر الله تعالى.
إذاً: هذا الحديث مغاير لأسلوب القرآن في استبدال الصوم عن المادة في موقعه؛ لأن الصدقة هنا مطلوبة لذات البدن بخلاف الصوم في الظهار، وكفارة اليمين، فهو خارج عن موضوعها، وذلك من فضل الله على الأمة، فلم يقفل أمامها طريقاً إلا أوجد لها ما تعوض به عنها.
السؤال الثاني: إذا كانت الصلاة هي التي تؤدي به هذا الواجب، والجسم يؤدي واجبه بنفسه فيشكر الله على ما فيه من نعم، حتى العين والأذن تشكر لله، فالعين تنظر إلى القبلة أو تبصر إليها أو تنظر إلى كتاب الله لتقرأ في الصلاة، والأذن تسمع التسبيح والتحميد، والقلب مع هذا كله قد عقد النية شكراً لله، فلماذا اختصت بهذا صلاة الضحى؟ إن كان ولابد من صلاة فكم من نافلة يصليها الإنسان! وكم من وقت صالح لأداء الصلاة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] ، وهذه جاءت في وضح النهار في الضحى، ولم تأت في جوف الليل، فلماذا؟
صلى الله عليه وسلم بعض العلماء يختصر الطريق ويقول: لعل في صلاة الضحى سر لا يعلمه إلا الله، فنكف ألسنتنا؛ لأن جميع العبادات فيها أسرار، وإن علمنا بالبعض منها فلا يستطيع إنسان أن يدعي الإحاطة: لماذا الصبح ركعتين بعد نوم طويل وراحة، والظهر أربع ركعات في وقت عناء النهار، وكذلك العصر والمغرب، والعشاء عند النوم وفيه الراحة أربع ركعات؟ لا تستطيع أن تعلل شيئاً، وإن قلنا: أوقات الصلاة ربطت بآيات كونية {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، آيات كونية تتغير وتوجب الشكر، وتوجب النظر في ملكوت الله، وتستظهر القدرة الإلهية في حركة هذا العالم، فتأتي الصلاة مع القدرة متوازيان، ولكن لماذا كانت هذه اثنتين، وتلك ثلاث، وتلك أربع؟! حكم لا يعلمها إلا الله.
وبعض الفقهاء حاول الكلام في هذا، ولكن حقيقة الأمر عند الله، وإذا استقر الأمر على الضحى، فبقي سؤالان: حكم صلاة الضحى، واختلاف الصحابة فيه، واختصاص الضحى عن بقية الصلوات.