بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم] .
هذا الحديث يمكن أن يجعل له عنوان: شكر النعمة، أو صدقة البدن، ويمكن الربط بينه وبين الحديث الذي قبله: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم) فيأتي النووي رحمه الله بعد هذا ليبين أن كل الصلوات وكل الصيام وكل الصدقات وما زاد عليه من الأعمال لا يؤدي شكر نعم الله على العبد.
وفي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) لفظة: (كل) يسميها علماء المنطق والبيان سور كلي، يشمل كل سلامى في بدن الإنسان، ويختلف العلماء في تفسير السلامى، والمفصل والعضو والعظم كل ذلك جاء في الحديث النبوي، تارة (بمفصل) ، وتارة (بسلامى) ، وعلماء الطب القدامى كـ ابن سيناء في القانون يقسم العظام إلى ثلاثة أقسام: منها ما عليه بناء الجسم كالخشبة المعترضة في بناء السفينة يقام عليها بناؤها، وهو العمود الفقري وعظام الظهر، وهناك عظام جانبية قد تكون مساعدة وقد تكون مستقلة، وعقد ثلاثاً وثلاثين باباً في شرح العظام في جسم الإنسان، وقسمها أيضاً إلى السلاميات والسمسميات وهي عظام دقيقة بين المفصل والمفصل، أو بين العظم والعظم.
والمتأمل في خِلقة الإنسان يجد الآيات الباهرات لا سيما من العظام التي تستخلص من كل عاقل الاعتراف بقدرة الخالق سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] وفي بعض القراءات: (فعدَّلك) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
إذاً: خلق الإنسان من أعظم آيات القدرة الإلهية.
ومن أعظمها دلالة على القدرة الإلهية، والعلم الأزلي المحيط بكل شيء، اختلاف صورة هذا الإنسان، تجد آلاف الملايين من البشر لكل شخص طابع في وجهه خاص، مع أن القالب واحد، عينان وأنف وفم، وكل في موضعه، ولا تجد صورتين متحدتين تماماً تماماً، فلابد من المغايرة، فتلك الأشكال وتلك الصور آلاف الملايين، وعدم اختلاط بعضها ببعض؛ يدل على القدرة حقاً.
قوله هنا: (كل سلامى) معناه باتفاق العلماء: عظماً أو مفصلاً، وجاءت الأحاديث: (ثلاثمائة وستون مفصلاً) ، وجاءت: (ست وثلاثون سلامى) على أنها السمسميات كما يقول علماء العظام.
وقوله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) يذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بواجب حفظها وصيانتها، وبأي شيء تكون تلك الصيانة؟ هل يكون بإدخالها الورش والمستشفيات والمعامل؟ لا.
ولكن بالصدقات شكراً لله على تلك النعمة، ومهما يكن من شيء في هذا الموضوع فلا ولن يستطيع إنسان أن يؤدي شكر هذه النعمة، كما جاء في بعض الآثار، وقد جمع منها ابن رجب في شرح الأربعين نصوصاً كثيرة عديدة جداً، منها: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول المولى سبحانه للملائكة: زنوا عبدي بعمله وبنعمي عليه، فتقوم نعمة واحدة، نعمة البصر أو السمع تطالب بحقها من حسناته، فتستغرق جميع أعماله، فلم يبق له شيء) وعن وهب بن منبه: قال: كان رجل ممن كان قبلكم عبد الله في جزيرة في البحر خمسين سنة، فإذا كان يوم القيامة قال الله:) أدخلوه الجنة برحمتي فقد غفرت له، فيقول: يا رب! بل بعملي، وأي ذنب لي؟ فيقول: زنوا نعمي عليه بعمله، فتقوم نعمة السمع وتطالب بحقها فلم يبق له شيء، فيؤمر به إلى النار، فيقول: يا رب! أدخلني برحمتك، ثلاث مرات، فيدخله الله تعالى الجنة برحمته) وهذا الأثر في سنده كلام.
ويذكرون أن رجلاً أوتي مالا ًكثيراً ثم أخذه الله عنه، فحمد الله وشكره، فجاء شخص آخر وقال: تحمد الله على أي شيء وقد أخذ جميع ما عندك؟ قال: أحمده على نعم له عندي، لو أعطاني ملوك الأرض عوضاً عنه لا يجزئ فيه، قال: وما هو؟ قال: سمعي وبصري وحمدي لله.
ويذكرون أن رجلاً بات ليلة نائماً هادئاً، فإذا بعرق ينبض عليه بالألم فمنعه النوم، فقيل له: كم يوازي نعمة سكون هذا العرق عليك؟ فقال: بكل ما أوتيت من مال، كأن يثور عليه ضرس أو تضرب عينه، أو أي وضع من هذه الأوضاع فيتمنى أن يسكن هذا الألم بكل ما أوتي من مال.
ولذا أول شكر النعمة: حفظ الجوارح من معصية الله، ثم زيادة على ذلك أن يصرفها في طاعة الله، في أداء الواجبات، ثم مرتبة ثالثة وهي: أن يصرفها في نوافل العبادات، سواء كانت في شخصه أو متعدية إلى غيره على ما سيأتي توضيحه من النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل إنسان كل يوم أن يتصدق بعدد أعضاء جسمه، وتلك الصدقة هي صدقة شكر، وأي نعم أعظم على الإنسان من ذاته وشخصه؟!! وإذا اعترف الإنسان بنعم الله عليه كانت معرفته شكراً لها، كما جاء عن نبي الله موسى عليه السلام أنه قال: (يا رب! إن صليت فمن قبلك صليت، وإن صمت فمن قِبَلك صمت، وإن بلغت رسالتك فمن قِبَلك بلغت، فكيف أشكرك على نعمك؟ فأوحى الله إليه: الآن -يا موسى- شكرتني) يعني: عرفت أن صلاتك من قِبَلي، وأنا الذي أعنتك ووفقتك إليها، وعرفت أن صيامك من قِبَلي، وأن قيامك وتبليغك من قِبَلي، فإذا عرفت أن تلك النعم من الله فقد شكرت: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، ولذا جاء في الأثر: (من قال إذا أصبح: اللهم! ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر النعم) .
(كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم) (كل يوم) اليوم هو الزمن المحدد بأربع وعشرين ساعة في هذا العرض، أو ليلة معها نهار.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس) ، معروف أن اليوم هو من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس، وهو اليوم الحقيقي الفلكي ولكنه قال: (تطلع فيه الشمس) لرفع توهم اليوم اللغوي، كما تقول العرب: يوم ذي قار، وهو يوم حرب في الجاهلية، نبت فيه أجيال، أو تقول: يوم اليرموك، أي: وقعة اليرموك، وهي لم تكن في يوم واحد من مطلع شمس إلى مطلع شمس.
إذاً: يحدد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم هنا بطلوع الشمس ليرفع توهم اليوم اللغوي، ولعل التنصيص على طلوع الشمس بتحديد الوقت الفلكي الحقيقي، يبرز لنا نعمة عامة: وهي طلوع الشمس من مشرقها على عادتها، وإلا لو حجبت عن الطلوع، وجاءت من مغربها قامت الساعة، فمجيء الشمس وطلوعها كل يوم فيه إنعام على الكون كله، نباته وحيواناته وإنسه؛ لأن في طلوعها حركة وحيوية وانتشار، فيذكر بأن هذه من النعم العظمى.
ولعله يبين لنا: أننا لا نستطيع أن نأتي بالشمس فتشرق، كما قال الله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، ليس هناك طائر يطير إلا بجناحين، ولكن هذان الجناحان لو تركا للطائر ما طار، ما يمسكهن إلا الله سبحانه وتعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] ، من الذي يمسك الطائر وهو صاف هكذا؟ المولى سبحانه، فيبين أن القدرة الإلهية وراء الأسباب المادية، وقد يكون لبيان عظم الفعل كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، لا يوجد كلمة إلا وتخرج من الفم، ولكن إكباراً واستنكاراً؛ لأنهم تجرءوا عن مجرد تفكير في الخاطر حتى تكلموا به، وخرجت من أفواههم مع عظمها فقالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88] .
سبحان الله! فقوله: (كل يوم تطلع في الشمس) بيان لنعمة الله على الخلق في هاتين الآيتين الكونيتين الليل والنهار.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) ، وبين أن في الجسم ثلاثمائة وستين مفصلاً، أي: في كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، لو تصدق بثلاثمائة وستين تمرة لصارت كذا كيلو، وكذا صاع، وليس كل الناس يجد تمرات يأكلها في النهار، فضلاً عن التصدق بهذا.
وهنا صلى الله عليه وسلم وجه الأمة إلى أفعال من الخير والبر عوضاً عن تلك الصدقات المادية، كما في حديث أهل الدثور، وهنا يشترك هذا الحديث مع ذاك في بيان نوعية عمل الخير، فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ليست قاصرة على المادة، بل هناك من الصدقات المعنوية ما تفوق المادة في عظمها وفي أجرها قال الله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فليس كل نفقة في المال قد تنفع صاحبها.