وهنا: (فمن وجد خيراً -مما عمل- فليحمد الله) يحمد الله على ماذا؟ نرد على المعتزلة بسرعة، هنا: وجد خيراً فيما عمل وأحصاه الله له: هذا الخير الذي وجده العبد من عمله يوم القيامة، من جانب الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] ، فالحمد لله.
إذاً: الفضل كله راجع لله، وفي نهاية المطاف نحمد الله، هنا يقول بعض العلماء: سبعة من لازم عليها عاش سعيداً ومات حميداً، يقول: إذا بدأ عملاً قال: باسم الله، وإذا ختم عملاً قال: الحمد لله، وإذا رأى ما يكره قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا رأى ما يعظمه قال: لا إله إلا الله، وإذا أصيب بمصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أذنب قال: أستغفر الله، وإذا أراد أن يفعل شيئاً قال: إن شاء الله.
ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول عند قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة:186] يقول: إني لا أهتم بالإجابة فقد وعد بها الله، بقدر ما أهتم أن يوفقني للدعاء، فإذا وفقني للدعاء فقد استجاب.
إذاً: فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ لأن الله الذي وفقه وهداه، وهذه نتيجة الهداية، إذاً: الحمد هنا راجع لله، لأنه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالعبد هو وعمله من الله سبحانه وتعالى.
(ومن وجد غير ذلك) ، كان في المقابل: ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه، ولكن قال: (ومن وجد غير ذلك) ، ومعنى (غير ذلك) : الشر، ولكن كما يقول العلماء: المولى سبحانه نزه الحديث أن يصرح فيه بالشر، فكيف بك أنت تقع فيه إذا كان مجرد ذكره لا ينبغي: فمن السمو في الأدب ألا تصرح بشيء مكروه، فكيف بك أن تفعله وتنغمس فيه.
ولماذا خص النفس؟ لأن نفسه هي التي أغوته وطلبته وراودته وهواه هو الذي غلب عليه، فكما أنه أطاع نفسه في ذاك الذنب في الليل والنهار ولم يستغفر، فليرجع على تلك النفس باللوم، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية:23] .
إذاً: فلا يلومن إلا نفسه، وكما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك) ، أي: لا ننسبه إلى الله سبحانه وتعالى تنزيهاً، ولا نحتج بالقدر على وقوعه، فإن لك الاختيار ولك كل إمكانيات الفعل وعندك الطريقان، وكما تقدم: (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) قالوا: إذا أصبح العبد في الصباح وغدا في النهار من بيته، وجد رايتين على باب بيته، إحدى الرايتين هي لملك من ملائكة الرحمن، والأخرى بيد شيطان، فإن خرج في ظل راية الملك فهو في طاعة الله، وقد باعها إلى الله، والعكس بالعكس.
يقول بعض العلماء: إن يحيى عليه السلام خرج يوماً فلقيه إبليس قال: أخبرني عن أصناف الناس؟ قال: أنت وإخوانك الرسل عصمهم الله منا، فاستراحوا منا واسترحنا منهم، وقسم هم في أيدينا كالكرة في يدي الصبي نلعب بهم كيف شئنا، وقد أراحونا من أنفسهم، وقسم لم نيأس منهم ولم نتركهم قال: من؟ قال: قوم نجلب عليهم ونوقعهم في المعاصي ونحملهم عليها، فإذا بالواحد ينتبه في لحظة فيستغفر الله فيغفر له، فكل الذي بنيناه يهدمه، فنرجع مرة أخرى؛ فلم نيأس منهم، ولم نطمع فيهم، ولم نسترح منهم) .
إذاً: (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ؛ لأنها هي التي حملته على تلك الطريقة وأبعدته عن منهج الله الذي يدعوه ليل نهار ليستغفر فيغفر له.
وهكذا أيها الإخوة! في هذا الحديث بدأ سبحانه وتعالى بالتحذير عن أعظم ذنب أو أخطر مسلك وهو الظلم، وانتهى بالتحذير والتهديد بأن كل ما عملته يحصى وتلقى الله سبحانه وتعالى على ما قدمت، إلا أن هناك جوانب يذكرها العلماء: بأن هذا الإحصاء أكثر ما يكون للخير، ولذلك قال: (أحصيها لكم) لأن ما كان عليكم قد يمحى فلا يكون موجوداً يوم القيامة، بخلاف الخير فإنه باق محفوظ كله.
وهناك تكون المقاصة بالأعمال والحسنات والسيئات على ما يأتي بالحديث الذي بعد هذا، وحديث البطاقة الذي بيّن صلى الله عليه وسلم فيه سعة فضل الله تبارك وتعالى على العبد، وهو حديث الرجل الذي جيء به وله سجلات من السيئات قد رجحت بكفة ميزانه وأيقن في نفسه أنه هالك، فقال الله سبحانه: (أنظروا عبدي، فإن لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة، يقول: هذه أمانتك عندنا، فيقول: رب وما تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات) .
وماذا في تلك البطاقة؟ فإذا فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فتثقل بها وتطيش كفة السيئات، فهذه مما أحصاه الله للعبد، وقد لا يدركه، ولكن كما يقول العلماء: في حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، والأحاديث التي تقيد هذا: (إلا بحقها) وحقها: العمل بأركان الإسلام، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والله أسأل أن يعاملنا بلطفه وإحسانه وفضله، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.