في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث درست معالمها ولا بينة عندهما) ، أي: ميراث قديم؛ كان جدهم قد ترك بستاناً أو بيتاً، لكن أين معالمها؟ اندثرت، أين البينات؟ لا توجد، فهي قضية مغلقة ليس لها رأس ولا أرجل.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي يبلغ من الله بأقل شيء في الصلاة، كان في نعليه أذى فجاء إليه جبريل فأخبره، فخلعه في أثناء الصلاة، ولم ينتظر حتى يكمل، وحفصة {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، فيقول لهما.
: (إنكم تختصمون إليّ وأنا بشر -أي: من حيث القضاء، وجانب البشرية لا النبوة والرسالة؛ لأن القضاء عمل بشري وأنا بشر- ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن استقطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار) إلى آخر الحديث.
فكان كل منهم يقول: نزلت عن حقي لأخي ولا أريد شيئاً، فكانوا متخاصمين ثم صاروا متصالحين.
لكن هنا تنبيه للحكام والقضاة: الإنسان حينما يقع تحت تأثير العاطفة أو يقظة الضمير يكون ذا حساسية وشفافية وزهادة، فانظر إلى هؤلاء بعد أن كانوا متشاحين ومتخاصمين لما سمعوا (قطعة من النار) تنبه الضمير، وكل كأنه يرى سعير النار ولهبها يلفح وجهه فتنحى وتباعد، لكن بعد هذا المجلس قد يرجع إلى طبيعته وتهدأ عواطفه ويبرد إحساسه ويرجع يتأسف، ولذا لا ينبغي للحاكم ولا للقاضي أن يأخذ الشخص عند تأثير العاطفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما وقد قلتما ذلك؛ فارجعا واقتسما وتحريا في القسمة واستهما، وليبح كل منكما صاحبه) .
انظروا إلى النقاط: (ارجعوا فاعملوا قسمة، وتحروا في القسمة، وذلك حتى لا تعود بعد أيام وشهور وسنين وتقول: يا ليتني فعلت، ضحك عليّ، فمن الآن تحريا، وبعد التحري استهما واعملا قرعة، وبعد القرعة كل واحد يقول للثاني: سامحني.
يهمنا أنه يقول: (لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع) مع أنه لو ترك الأمر إليه واجتهد ولم يصب الحق لأتاه الوحي حالاً لأنه لا يقر على خطأ.
وهذه والله رحمة للمسلمين، فإذا كان النبي يأتيه الوحي في كل قضية، فالقضاة من بعده من أين يأتون بالوحي، فوضع منهج البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وهنا: (أحصيها لكم) ، وبمقتضى هذا الإحصاء أنتم تشهدون عليه، فكل إنسان يقرأ كتابه وكفى بنفسه على نفسه حسيباً، فكل إنسان يقر على نفسه، وكما يقولون: الإقرار سيد الأدلة، وانظر في آية الدين: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] بعد ذلك: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ، ثم: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] ، لم يقل: الذي له الحق، بل الذي يملل على الكاتب هو الذي عليه الحق؛ لأن كونه يملي على الكاتب فهو إقرار منه، فإن كان الذي عليه الحق ضعيفاً أو سفيهاً أو لا يستطيع أن يملي الكاتب فيملي وليه.
فهذا إقرار من الولي عن موليه في هذا الدين، فالإقرار سيد الأدلة.
وهنا أنت تقرأ كتابك وترى عملك بنفسك، إقامة للعدل ومقتضى تحريم الله الظلم على نفسه.
(ثم أوفيكم إياها) : التوفية: الجزاء الوافي بدون نقص.