رب العزة يقول: (لو أن أولكم وآخركم) يعني: حيكم وميتكم، (وإنسكم وجنكم) بل ولو قامت حتى حيواناتكم ولها مطالب، (وأعطيت كل سائل مسألته) ، ما الذي سوف يحصل؟ (ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر) .
انظروا الأساليب! أين الأدباء والبلغاء والكتاب؟ لو قال: ما نقص شيء، لكانت الكلمة تمر هكذا على الأذن بلا تأثير، ولكن هذا الأسلوب يعطي في ذهنك صورة عملية وأنت الذي تحكم، يقول لك: أنا أُعطي، لكن ما الذي سيحصل؟ خذ إبرة واغمسها في البحر وارفعها، وانظر قدر ما نقص من البحر، فذلك هو الذي سينقص عندي، أنت بنفسك تقول؟ ليس بناقص شيئاً، وذلك وذلك كما في الآية الكريمة: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، لو قال لك: ليس ببالغه شيء، لما انطبعت الصورة، لكنه يصور لك صورة (كاريكاتورية) كما يقولون عنها، إنسان عطشان ويأتي على حافة بئر أو نهر ويفتح فمه ويمد كفه مبسوطة والماء بعيد في قعر البئر فهل يصله الماء؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] : ومتى يسكن الإنسان بيت العنكبوت، كأنك تقول: لا شيء.
وهنا وقفة مع قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، لما جاء العصفور وشرب، وقال له: ما ينقص علمي وعلمك إلا كما ينقص البحر من هذا العصفور.
في كلمة: (إذا أدخل البحر) أي البحار يريد؟ أظن أهل الجغرافيا يقولون: البحار هي المحيطات: الهندي والهادي والأطلسي والبحر الأبيض، وأظن أن البحر الميت لا يسمى بحراً ولكن بحيرة لوط، والحديث يقول: (إذا أدخلت في البحر) ، فهل في نظر القرآن تلك البحار بحار متعددة أو هي بحر واحد؟ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف:109] .
إذاً: تسمية الجغرافيين البحار إنما هي بتسمية أماكنها التي تمر بها، وجميع بحار العالم بحر واحد، ونحن نعرف هذا، فكلها متصلة لا يوجد حاجز بينها، وكما يقولون: ربع الأرض يابس وثلاثة الأرباع مياه، إذاً: في البحر يعني في بحار الدنيا التي تسمونها كذا وكذا.
والجواب أنه لم ينقص شيء، وهنا يقول العلماء: إن المولى سبحانه خزائنه ملأى، وفي بعض العطاء كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .