نأتي إلى النظام الإسلامي وأثر الزكاة والصدقة فيه، فنجد أنه ما وقع في العالم الإسلامي فتنة ولا غزته فكرة ولا أوتي من الخارج إلا بسبب ترك الصدقة، فلما عطلت الزكاة هدم انتظام المال في الإسلام، وجاءت الفوارق البعيدة، وتقطعت الصلات بين الأغنياء والفقراء، وشح الغني بماله، وحقد الفقير بقلبه، وجاءت الطبقات، وجاءت الدعوات، ومن قبل كان المال عارية في يد صاحبه، ويرى أن الله امتحنه به ليرى: هل يشكر ويحمد ربه ويؤدي حقه أم لا، والفقير أمسك الله عنه المال امتحاناً له لينظر أيصبر أم يجزع، وقد يكون امتحان الغني أشد: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، لأن الفقير سلبي، أما الغني يطيش بيديه إلى كل جهة.
فحينما كان المال عارية مستعارة بيد الجميع، فكان يعرف حقه فلا يتعداه، فالغني يؤدي حق الله، والفقير لا يتجاوز حقه في المال، وكل يقف عند حدود الله، فيعيش العالم في أمان وطمأنينة، وكان الكل غنياً بالله.
يقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إن الله أودع في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء، وما جهد فقير إلا بتقصير غني، والله محاسبهم على ذلك حساباً شديداً، ومعذبهم عذاباً أليماً) .
أي: الفقير لا يشتكي إلا بتقصير الغني، فالله سبحانه قدر مقادير كل شيء، وأعطى من المال ما يكفي لعباده، لكن الغني يمسك حق الفقير، وإذا كان لك شريك في مال وأمسكت حقه، أجعته، فالفقير له حق معلوم في مالك، فريضة من الله، فإذا أعطى الأغنياء حقوق الفقراء فلا شكوى، وإذا أمسك الأغنياء حقوق الفقراء كانت الشكوى؛ ولذا لما تنظمت الزكاة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ما شكا فقير حاجة، وكان يكتب إليه عامله على إفريقيا: إني قد جمعت الزكاة وأعطيت الفقراء والمساكين، وبقي عندي مال فماذا أفعل به؟ فيقول: انظر أي مدين فسدد دينه، فكتب إليه: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي غريب فبلغه بلده، فكتب إليه وقال: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي أعزب فزوجه، وهكذا انتظمت الحياة عند التزام شرع الله في الزكاة.
وفي القرآن الكريم بيان مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
} [التوبة:60] ، وعدد ثمانية أصناف تستطيع أن تقول: هي أبواب ميزانية دولة كاملة، فالتضامن الاجتماعي بين الغني والفقير والمسكين، ورجال الوظيفة (العاملون عليها) ، والساعون بالمعروف والإصلاح بين الناس، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و (المؤلفة قلوبهم) وزارة الخارجية وعلاقة الإسلام بغيره، ووزارة الطرق والمواصلات.
والجيش وفك الأسير والعاني (في سبيل الله) ، وكل ذلك مرافق لمصارف الزكاة.
إذاً: الزكاة مرفق اجتماعي عظيم في الإسلام، ومن أعظم مصارف الزكاة في سبيل الله وفي الرقاب، مثل: تجهيز الغزاة، وفكاك الأسير.
إذاً: الزكاة في الدنيا شأنها عظيم، وأمرها في الآخرة أعظم: (المرء في ظل صدقته) ، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .