صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذه حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد: الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالساً في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعز عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له قرشين، فدفعها إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجاً هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه -يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأراً أو ويريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالاً: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالقرشين؟ فقال: أي قرشين؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ سبحان الله!! واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان.
فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لهذين القرشين، فلا تتكاثر معروفاً تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدراً.
الثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يوماً فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غاراً فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يوماً؟! فقال: أولاً: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال: حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه، فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريباً، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد-، فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني.
وهذا مما يبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله.
وقد سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللآتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم! أيها الإخوة: إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله، ولما جاء إعرابي وقال: (يا محمد! أنت نبي؟ قال: نعم.
قال: من أرسلك؟ قال: الله.
قال: من يشهد لك؟! قال: الطعام الذي تأكل منه، فرفعوا القصعة إليه وأصغى بأذنه فإذا بها تقول: لا إله إلا الله، فقال: والله! إنها لتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال رجل: اسمعنيها يا رسول الله! قال: أسمعه، فسمعها تأتي بالشهادتين، فقال الثالث: أسمعنيها؟ فقال: ضعها في الأرض) أي: يكفي شهادتين.
فإذا كان الأمر كذلك، ونحن في القرن الخامس عشر نسمع أحداثاً من تلك ونعاينها ونحسها، فلا شك أن ذلك يعطي المؤمن زيادة إيمان ويقين، والخليل عليه السلام سأل ربه كما: قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .
إذاً: الصدقة في الدنيا لا تضيع، ولا يضيع الله على أحد شيئاً، أما البركة في المال، والزيادة، والطهر، والنماء، فهذا أمر مفروغ منه.