كان بعض السلف إذا قام في الصلاة لا يدري بمن حوله، وإذا قرأ الآية ربما رددها الليل كله، كما جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قام ليلة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وابن عباس قام ليلة بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ، وعن عكرمة أنه قام بهذه الآية في سفر يرددها ويبكي حتى طلع الفجر، فهؤلاء ذاقوا حلاوة المناجاة مع الله.
وهاهو علي بن الحسين كان يصلي وانصدع ركن المسجد، ولم يشعر بشيء، ومضى في صلاته حتى سلم منها، فقال: ما هذه الغبرة؟! قالوا: أما سمعت المسجد قد سقط؟! قال: لم أشعر بذلك! كنت في شغل عنها، وكان إذا أراد أن يتوضأ اصفر وجهه، وتغير لونه، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟! وعروة بن الزبير أصيب في ساقه، وقرر الأطباء قطعها، فقطعوها وهو في الصلاة! وذكر البخاري رحمه الله تعليقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأصاب في النهار حياً من أحياء العرب، فجاء رجل منهم كان غائباً فعلم أن زوجته مع المسلمين، فتبعهم بالليل، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً، فقال: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان: رجل من ثقيف، والآخر من الأنصار، فأمرهما أن يحرسا المسلمين) ، فذهبا إلى فم الشعب، فقال أحدهما للآخر: اكفني نصف الليل الأول وأكفيك نصفه الثاني، فقام صاحب النوبة، يحرس فم الوادي، ورفيقه نائم ينتظر نوبته، فجاء الرجل الذي يطلب ثأر زوجه، فسمع القارئ يقرأ، ولم يره لظلام الليل، وكان رامياً، فأخرج سهمه، ووضعه في قوسه، ورماه صوب الصوت فأصابه، ولكن القارئ نزع السهم وألقاه، واستمر في قراءته، فظن المشرك أن سهمه أخطأ، فأخذ السهم الثاني وصوبه وأصابه، ولكن القارئ نزع السهم ومضى في صلاته، فظن الرامي أنه أخطأ، فأخذ الثالث ورمى وأصابه، وإذا بالدم يقطر على وجه النائم، فاستيقظ وقد فرغ من صلاته، فقال: ما هذا؟ قال: رماني الرجل، فقال: هلا أيقظتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها! عجب والله! السهم يقطع في لحمه، ويتقاطر دمه، وهو يكره أن يقطع قراءة السورة، بأي مقياس تقيسونه أنتم؟! لو لم يكن هذا الأثر في صحيح البخاري، لقلتم: سنده وسنده، رجاله ورجاله؛ لأنه فوق مستوى إدراكنا، فكيف يتحمل ثلاثة أسهم؟! بل هي أشد من ستة؛ لأن نزع السهم وله أسنان معاكسة أشد فتكاً من رميه ونفوذه، كما قال القائل: سيان إن هي أقبلت أو أدبرت نزع السهام ووقعهن أليم فهذا يرُمى بثلاثة أسهم، وتخترق جسمه، وينتزعها ويستمر في صلاته؛ لأنه كان يقرأ سورة ويكره أن يقطعها! أتظنون أن هذه السورة من قصار المفصل كالضحى، وألم نشرح، والتين، لا والله! قالوا: إنها سورة الكهف، فيستمر في قراءته وصلاته بالليل حتى يختم سورة الكهف! غذاؤهم الروحي هو سر قوتهم وليست القوة بالمطعومات والمشروبات.
ويقولون: من خصائص خالد بن الوليد: أنه ما انهزم في معركة أبداً، حتى وهو مشرك، وفي أحد كان مع المشركين، وكان هو سبب عملية التفاف المشركين من وراء الرماة.
قيل له في آخر حياته: يا خالد! لقد حزت المناصب، ونلت الانتصارات، فما هي أمنيتك في الحياة بعد ذلك كله؟ انظروا! حروب وانتصارات، غنائم ومناصب، ويسأل: ما تريد بعد ذلك؟ ماذا كان جوابه؟! أطلب الخلافة؟! لا والله، إنما تمنى أن يحرس المسلمين مصلياً، فـ خالد رضي الله عنه ما كان يعمل لمنصب، ولا لدنيا، وخير شاهد على ذلك: ما وقع في وقعة اليرموك، حينما كان رضي الله عنه قائداً للمعركة، وعاملاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فتوفي أبو بكر وتولى عمر، وسمع عمر بانتصاراته، وسمع برعب الناس، فعزله أثناء المعركة، وجاء البريد بوفاة أبي بكر، وأمر عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة، فماذا فعل خالد؟ حينما اجتمع القادة جميعاً قالوا: دعونا نتناوب القيادة؛ لأن عدد العدو أكثر من عدد المسلمين خمس مرات، فقالوا: نتناوب القيادة، واتركوا لـ خالد هذا اليوم، فأخذ ينظم الجيش، وأخذ يرسل بعض السرايا ليلاً لتأتي نهاراً توهم العدو بمجئ مدد، وفي أثناء المعركة بدت بشائر النصر، وجاء البريد، فأوقفه خالد ما عندك في هذا البريد؟ فأخبره، فقال: أعلم برسالتك أحد؟ قال: لا.
فحبسه عنده وأمسك خطاب عزله، واستمر في قيادة المعركة؛ حتى أتم الله النصر على يده، ثم ذهب إلى أبي عبيدة فقال: السلام عليك يا أميرنا! وعظم الله أجرك في أبي بكر، وليهنك خلافة عمر، قال: وأنت؟! قال: أنا جندي من جنودك، وقدم إليه خطاب التولية والعزل! فهل كان هذا البطل يسعى لمنصب؟! يأتيه العزل من القيادة وهو في أثناء المعركة، فلم يتخل ويقول: لست مسئولاً، ولا حاجة لي فيها، إنما كان يقاتل في سبيل الله، ولهذا كل مسلم يشارك في معركة، يحس بأنه مسئول عنها بكاملها.
وهذا الحباب بن المنذر لما كان في غزوة بدر، ونزل رسول الله في أول الأمر منزلاً، فقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل الحرب والمكيدة، قال: ليس هذا بمنزل، الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر جهة المشركين، ونبني لنا حوضاً ونمنع عنهم الماء، ونجلس على الماء ولا ماء للمشركين) ، وكان جبريل مع رسول الله وهو ينظم الجيش، فنزل ملك وقال: (يا محمد! الرأي ما قال الحباب، فالتفت الرسول إلى جبريل، وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟! قال: لا؛ لأنه ما كل ملائكة السماء يعرفوهم جبريل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، ولكنه قال: هو ملك وليس بشيطان) فـ الحباب وهو فرد من الجيش يشعر بأنه مسئول عن مهمة المعركة بأكملها.
وفي بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينةً، واشتد أمر الحصار على المسلمين، واهتدى رجل في الليل إلى ثغرة في الحصن، فدخل حصن العدو، وفتح الأبواب، وكبر ودخل المسلمون وانتصروا، وهم لا يدرون من الذي فتح الأبواب؟ فقام الأمير يريد أن يعرف من هو، فقال: ليقوم صاحب الثغر فمكث ثلاث ليال ولم يأته أحد، ثم قال: عزمت عليك -يا صاحب الثغر- بحق السمع والطاعة إلا أتيتني، وفي منتصف الليل ذهب صاحب الثغر إلى خيمة الأمير، فوجد حارسه عند الباب وكان متلثماً، فقال للحارس: أخبر الأمير بأن طلبه على الباب، وقل له: إنه يجيبك بشرط: إن كنت تعرفه فلا تخبر به، وإن لم تكن تعرفه فلا تسأله عن اسمه، ولا تحاول أن تقدم له هدية ولا جزاء، فإن قبل دخلت عليه، وإلا انصرفت، فقال: أدخله، فدخل، فما كان منه إلا أن سلم وقال: أي هذا! ألا تتقي الله فينا، ما لك ولنا؟ ما الذي تريده مني؟ إن الذي أقاتل في سبيله يعرفني، ويعرف من أنا، وابن من، فهل جئنا من أجلك؟ عزمت عليك بالله ألا تطلبني بعد ذلك، وخرج من عنده حالاً! فـ خالد رضي الله عنه حينما سئل: لقد خضت المعارك وانتصرت، ونلت من الغنائم ما غنمت، ونصبت من المناصب ما نصبت، فما هي أمنيتك بعد ذلك؟ فيقول: ليلة مطيرة شديدة البرد، عاصفة الرياح، أقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله! إذا كان هؤلاء هم القادة فلماذا العجب من جندي ينزع السهام ويستمر في الصلاة؟! من الذي أعطاه هذه الطاقة؟! أهو البنج أم المنوم، أم المخدر؟! لا والله! إنه الإيمان فوق كل شيء، وهكذا إذا ذاق العبد حلاوة الصلاة، ومناجاة ربه، فأي نور بعد هذا؟! الصلاة نور في الدنيا، ونور في الآخرة، ويكفي أنها مما يعين العبد في دنياه، ويسعده في آخرته، لقد كان صلى الله عليه وسلم: (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) .
وابن عباس كان يمشي في سفر، فجاءه نعي صديق عليه، فنزل وصلى ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: أستعين بهما على ما بلغني من الخبر.
وما من مسلم تنزل به نازلة، فيتوضأ ويستقبل القبلة، ويصلي ركعتين إلا شرح الله صدره، وفرج عنه ما به، ولذا جاء في الأثر: (من أراد أن يدخل على ربه بلا استئذان، ويخاطبه بلا ترجمان، فليسبغ وضوءه، وليستقبل القبلة، وليكبر في الصلاة) ، حينما ندخل المسجد، وحينما نقف للصلاة، لم نستأذن أحد، ويقف العباد جميعاً كل يدعو الله بلغته، والله لا يستأذنون أحداً، في موسم الحج يقف بجانبك إفريقي، وآسوي، وأوروبي، وأمريكي، ألسنة مختلفة، والكل في صف واحد، والكل يعبد رباً واحداً، بدون ترجمان، ويسأل كل إنسان مسألته بينه وبين الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.
فالصلاة صلة بين العبد وربه، يلجأ إليها العبد في النوازل والملمات، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، وقد وصى صلى الله عليه وسلم بتربية النشء في البداية وقبل البلوغ عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فيعود الصبي على الصلاة من السابعة إلى العاشرة ثلاث سنوات، بالترغيب وبالترهيب، وبإعطاء الحلوى والهدايا، وصحبته إلى المسجد، ثلاث سنوات، فإذا بلغ العاشرة، فإن كان خيّراً طيباً نقياً كان ذلك كافياً له في أن يرتاد المسجد وحده، وإلا ضرب ضرب تأديب لا ضرب تشفي، فإذا روّض من السابعة إلى العاشرة، ثم ألزم وضرب من العاشرة إلى الخامسة عشرة، فلا يجري القلم عليه إلا وقد أصبحت الصلاة جزءاً من دمه ولحمه، وما جنى إنسان على ولده أكثر من ترك تعليمه الصلاة، فعلى العبد أن يفعل ما في وسعه، والتوفيق والهداية من الله سبحانه وتعالى.
والصلاة عني بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كما جاء: (آخر ما تتركون من أمر دينكم الصلاة، وأول ما يسأل عنه العبد