بعد نطق اللسان، الذي جاء عقب تطهير القلب، تأتي أعمال الجوارح، (والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) قال: (الصلاة نور) بينما يأتي قوله: (والصبر ضياء) ، ويتفق علماء اللغة أن الضياء أقوى وأشد من مجرد النور، لكنهم يقولون: النور إضاءة بلا حرارة، والضياء نور مع شدة حرارة، (والصدقة برهان) ، قالوا: البرهان هو الشعاع الذي يكون أمام ضوء الشمس.
إذاً: هذه الثلاثة الألفاظ (نور- ضياء- برهان) ترتبط بخط الإضاءة، إلا أن النور فيه ضياء مع هدوء، وليس فيه حرارة، والبرهان قريب من أشعة الشمس، والضياء نور مع شدة حرارة.
وما فائدة هذا التقسيم؟ قالوا: إن دين الإسلام نور وهداية، والقرآن الكريم وصف بأنه نور، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] ، وقال تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] ، وأما الضياء فمعه الشدة؛ ولهذا غاير في وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، وقالوا: النور يصدق على مطلق الإضاءة، والضياء لا يكون إلا للشيء الشديد القوي كما قال سبحانه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] فوصف القمر بأنه نور، والشمس بأنها ضياء؛ لأن نور الشمس أشد من نور القمر، ولكن قد يستطيع الإنسان مواصلة السير في نور القمر ما لا يستطيعه في ضوء الشمس، وأيضاً الصبر أعم من كل التكاليف، فبالصبر تصلي، وبالصبر تصوم، وبالصبر تزكي، وبالصبر تجاهد في سبيل الله، إلى غير ذلك.
ووصف الصلاة بأنها (نور) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه وصف الصلاة بقوله: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كانت له نوراً يوم القيامة، لم يحافظ عليها لم يكن له نور يوم القيامة) ، وجاء فيما يتعلق بالوضوء: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) ، وجاء في حق الصلاة أنها نور على الصراط، وجاء في القرآن الكريم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، والآية الأخرى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وسمعنا الشيخ الأمين رحمة الله عليه في هذا المقام يقول: هذه قضية خطيرة جداً بين المنافقين وبين المؤمنين، وفي ذلك اليوم يكشف الله حقيقة خداع المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، ويقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، وكيف يخادعون المؤمنين؟ قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15] .
فهم خدعوا المؤمنين بقولهم: نحن معكم، ويحضرون معهم الجماعات، وإذا توفى أحدهم توارثوا معه، ويتزاوجون من المسلمين، ويتوارثون معهم، ويجاهدون معهم، ويأخذون من الغنائم معهم، وحقنت دماؤهم وأموالهم، هذا ظاهر الأمر، ولكنهم يخفون الكفر، فالله سبحانه تركهم على ما هم عليه، وظنوا أنهم بذلك خدعوا الله وخدعوا المؤمنين.
وفي يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- يتولى الله أمر الجميع، ويقوم الناس من قبورهم لأول وهلة غراً محجلين من أثر الوضوء، المؤمن والمنافق سواء، ثم يطرد المنافقون من الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، ثم إن الملائكة تذوذ أقواماً عن الحوض فأقول: أمتي أمتي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي) .
وفي ذلك اليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ويبعث المنافقون بآثار نور الوضوء مع عامة المؤمنين، ويفرحون بذلك، لأنهم تساووا مع المؤمنين، حتى إذا جاءوا ليردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طردوا!! والنبي عليه الصلاة والسلام فرط الأمة على الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً غراً محجلة، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم) والدهم التي لونها واحد، البهم السوداء التي ليس فيها لون آخر، وغراً أي: جبينها مضيء، والحجل موضع القيد، والفرس إذا كانت دهماء بلون واحد، وجبينها أبيض، وأقدامها بيضاء، لا تخفى على صاحبها أبداً: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) فبين صلى الله عليه وسلم أنه ينتظرهم عند الحوض، فإذا جاءوا فرزت الملائكة النفاق عن الإيمان، وعزلت المنافقين عن المؤمنين، ومضى المؤمنون إلى الحوض ليشربوا منه، وحين يرد المنافقون يقولون كما قال الله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد:13] ، انظرونا: بمعنى انتظرونا، أي: حتى نمشي في أنواركم أو انظرونا: التفتوا إلينا، وانظروا إلينا ليجيء إلينا أنوار وجوهكم، انظرونا، أو انتظرونا: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] .
قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] تبقى على بياضها، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يطفأ نورها، وهؤلاء هم المنافقون، وحين ينادون المؤمنين يجيبهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13-14] ، فيبقى النور مع المؤمنين، ولكن المؤمنين حينما يرون هذا الموقف، يخافون من موقف آخر، ومن اختبار ثانٍ، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: أبقِ لنا هذا النور، وأتمه لنا حتى ندخل الجنة.
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم النور الكامل، وأن يحفظنا وإياكم من الفتن، وأن يبلغنا وإياكم رضاه والجنة.
قوله: (والصلاة نور) قالوا: هي نور في الدنيا؛ لأن المؤمن إذا طهر قلبه؛ وأدى الصلاة، كانت الصلاة له شحنة نور في قلبه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) من أين يأتيه النور؟ من عبادته، ومن صلاته: (ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ، فينير الله له بصيرته.
ولهذا يقول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فأنار الله قلبه وبصيرته، وشرح صدره، ويسر أمره.
والصلاة نور للمؤمن في الدنيا، بتوجهه إلى الخير، واطمئنان النفس والقلب، وبحفظه عن المعاصي كما قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] إذاً: الصلاة نور في الدنيا، وكما قال بعض السلف: (من صلى بالليل، حسن وجهه بالنهار) أي: يضيء وجهه، قال الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ، وهكذا في عرصات القيامة، فالصلاة نور للعبد يوم القيامة.
إذاً: (والصلاة نور) حقيقة يوم القيامة، ودلالة وهداية في الدنيا، ويدرك ذلك من ذاق طعم الصلاة، حينما يؤديها بخشوعها ويتمها بركوعها وسجودها، ويوفيها حقها من في الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، واستحضار القلب، وبذلك يشعر بحقيقة نور الصلاة وحلاوتها.