الفرض والنافلة في الزكاة

أما الزكاة: فبيَّن سبحانه وجوبها في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] أي: معدود محسوب، سواءً كان في الحبوب العُشر أو نصف العُشر، أو كان في النقدين ربع العشر أو كما يقولون: (2.

5%) ، وبين صلى الله عليه وسلم زكاة بهيمة الأنعام فيما يتعلق بالإبل والبقر والغنم.

ولكن (إن في المال حقاً سوى الزكاة) وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينُه ما تنفق شمالُه) ، لا تقل: (شمالُه ما تنفق يمينُه) .

ويقول بعض العلماء: إن الحديث فيه قلب، والأصل: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .

والصواب: لا.

كما جاء في الحديث: (لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وليس هناك قلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يبين مدى إخفاء المتصدق صدقته، والناظر دائماً إنما يراعي اليمنى؛ لأنها صاحبة الحركة، وصاحبة العطاء، وصاحبة الأخذ، أما اليسار فلا دخل لها في ذلك، وهو من شدة إخفائه الصدقة يوقف حركة اليمين ويحرك اليسار؛ لأن الأعين لا ترقبها.

فالحديث فيه: (حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله) ، هذا الذي يتصدق بهذا المال على هذه الصفة إنما يتعامل مع مَن؟ مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] .

وقد جاءت النماذج والأمثلة في سلف الأمة، فهاهو الصديق رضي الله تعالى عنه يَخرُج من ماله كلِّه، فيسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) .

وهاهو عمر الفاروق رضي الله عنه يقسم ماله نصفين أيها الإخوة! إن الإنفاق أو الصدقة النافلة باب مفتوح ومجال واسع ومهمتها أشياء عديدة: في الفريضة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، نعم.

تطهر قلوب الأغنياء من الشح والبخل، وقلوب الفقراء من الحقد والحسد؛ لأن الفقير إذا رأى النعمة عند الغني يستأثر بها دونه فلا يناله منها شيء تحرك الحقد في قلبه والحسد والغيظ، أما إذا وجد نعمة الغني تفيض عليه فإنه يكون حارساً لهذه النعمة ويدعو الله له أن يبارك في ماله وأن يديمه عليه وأن يزيده لتزيد حصته فيه.

ورغم ما في هذه الأبواب من الخير إلا أننا نغفل عنها، وفيما يتعلق بالحث على الصدقة يأتي الشرع الحكيم بقصتين عجيبتين: يأتي بقصة أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:17-20] .

لماذا؟ لأنهم تنادوا {مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:21-26] .

لماذا؟ أبوهم كان يتصدق؟! أبوهم كان يخرج من ثمارها؟! ولكنهم هم ضنوا وبخلوا بهذا القدر وعزموا على ألَّا يعطوا أحداً، وأن يصرموها ليلاً قبل أن يصحو المساكين ويأخذوا منها شيئاً، فعاملهم الله بنقيض قصدهم.

ويذكر لنا صلى الله عليه وسلم في المقابل: (بينما رجل يمشي في فلاة فإذا به يسمع صوتاً في السحاب: اذهبي فأمطري فاسقي مزرعة فلان) وانظروا أسلوب الحديث! (في فلاة) ليس في وسط قرية أو مدينة فنقول: هذا تشويش أو شيء يختلط أو شيء يُتوهَّم، بل فلاة من الأرض، ليس هناك تشويش ولا وهم.

ويسمع الصوت صريحاً في السحاب؛ من الذي يسخر السحاب؟ من الذي يأتي به؟ من الذي يسوقه فيحيي الأرض الميتة؟ إنه الله، لا شمس تبخِّر، ولا محطيات تتبخَّر، ورطوبة تتكاثف ثم يعود إلى الأرض، لا؛ والله! إنه صنع الله سبحانه وتعالى، من تبخير أو من بحار أو من شمس.

أو غير ذلك، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، ويسوقها إلى ما يريد، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9] سياق من الله، فهذه السحابة تؤمر وتذهب حيثما أمرت، قال: (فيمشي الرجل في ظلها، فإذا بها تأتي إلى حرة، وتستجمع، وتمطر، ويتجمع الماء ويسيل في شرجة، فيتبع الماء، فإذا برجل قائم بمسحاته يحول الماء في مزرعته، فيسلم عليه باسمه الذي سمع في السحاب.

فينظر إليه فإذا به رجل غريب.

فقال: كيف عرفت اسمي وأنت غريب.

فقال الآخر: أخبرني! ماذا تفعل في مزرعتك؟ قال: وما الذي حملك على السؤال؟ فأخبره.

فقال: نعم.

إن يكن كذلك فإني حينما أحصدها أقسم ثمرتها إلى ثلاثة أقسام: قسم: أدخره لنفسي وعيالي.

وقسم: أدخره أعيده بذراً فيها.

وقسم: أتصدق به على المساكين) .

أي قسمة هذه؟! أولئك ضنوا بالصدقة فأصبحت جنتهم كالصريم، وهذا حافظ على الصدقة فسخر الله له السحابة في مزرعته.

ليس هناك ماكينة ولا دولاب ولا ساقية ولا شيء، بل من الله؛ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، إذا أعطيت الثلث، فسيعطيك ثلاثة أثلاث، وهذا فضل الله.

إذاً: النوافل بابها واسع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015