وفي سورة الأنعام نجد موقفاً آخر مع الاستقامة، قال الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] لا ما حرمتم على أنفسكم، وما سيبتم من السوائب، وما اعتبرتم من البحيرة والوصيلة، لا كهذه التحريمات التي هي عن هوىً وجهالة، وبين بطلان ذلك بالتذكير بأنه خلق ثمانية أزواج من الضأن والماعز ومن البقر والإبل ولم يحرمها فقال: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] وبعد ذلك أمره الله أن يقول لهم: تعالوا أبين لكم حقيقة ما حرم ربكم عليكم، فبدأ بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] ، وهذا يوافق الحديث: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ، فالتوحيد بداية كل شيء، ثم قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] إلى آخر الآية، ذكر حق اليتيم وإيفاء الكيل والوفاء بالعهد، ثم قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] ، (وأن هذا صراطي مستقيماً) أي: هذا التشريع وهذا البيان وما يتلوه عليهم رسول الله مما حرم الله عليهم، ومما فرض عليهم.
ثم في آخر السورة تجد قوله سبحانه، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161-163] .
انظر إلى هذه الآية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لو أخذنا قوله في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهنا قال: (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ما هو؟ قال: (دِينًا قِيَمًا) والدين القيم هو الإسلام، وقال الله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ، وفي آخر سورة النحل قال الله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] ، فيبين هذا الصراط بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، فإياك نعبد وحدك، وصلاتي ونسكي لك وحدك، بل إن محياي أي: حياتي كلها بكل ما فيها، وما أتصرف فيها من حركاتي وسكناتي وقولي وصمتي وقيامي ونومي وكل تركاتي هي لك يا الله! لأنه لا يتحرك لنفسه، ولا لمنصب، ولا لدنيا يجمعها، إنما يتحرك لأمر الله، إما تنفيذاً لأمر من أوامره، وإما كفاً عن نهيٍ من نواهيه، فيعلن صلى الله عليه وسلم أن حياته كلها ومماته لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، وبالفعل هو أول من آمن بالإسلام والرسالة التي جاء بها من عند الله، وذلك بشهادة الله في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إذاً: قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ، أولية زمنية؛ لأن صاحب الدعوة إذا لم يكن مؤمناً بها كيف يدعو الناس أن يؤمنوا بها؟ كيف تدعو إلى شيء لم تقتنع به، ولم تؤمن به، وتريد غيرك أن يؤمن به؟! ولهذا فإن الدعوات الزائفة يعلم أصحابها بأنها زائفة، ولا يؤمنون بها، ولا يكون لها استمرار، ولا يدوم لها بقاء؛ لأنها ليس لها جذر تقوم عليه، وليست لها قاعدة تنطلق منها، بل الداعي إليها والآتي بها لا يؤمن بها، فعلى أي شيء يرتكز.