جاء ذكر الاستقامة في كتاب الله في مواضع كثيرة، وهذا الباب واسع، لو تفرغ إنسان لجمعه لجاء على القرآن الكريم كله بجميع تعاليمه، ولنبدأ أولاً بفاتحة الكتاب: قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، في هذه المقدمة: قل: آمنت بالله، إذا حمدت الله أثبت لله صفات الكمال والجلال، وإذا قلت: (رب العالمين) ، أقررت واعترفت لله بالربوبية العامة للعالمين جميعاً، عالم الإنس والجن والملائكة، عالم الحيوان والطير، عالم البحار والجبال، عالم النبات والأشجار، هو رب العالمين يربي العالم كله، فالذي يدبر هذا العالم، والذي أوجده هو الله رب العالمين.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ربوبية رحمة، لا سلطة وقهر وجبروت، مع أنه سبحانه له السلطة وله القوة وله الجبروت، لكنه يربي العالمين بالرحمة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بالخلق من الأم على رضيعها، وله مائة رحمة أنزل واحدة في الدنيا، وأمسك تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة، فبهذه الرحمة الواحدة يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها خشية أن تصيب ولدها، هذه رحمة الله رب العالمين الرحمن الرحيم في الدنيا، وعند المعاد يرحم العباد بتسعة وتسعين رحمة.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليس معه ملك، وليس معه مالك، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، وأنت -أيها العبد- أين تذهب؟ دنياك ربنا يدبرها، وآخرتك إليه وحده، إذاً: ليس لك مجال، وليس لك مآل، وليس لك مفر، ولا مهرب، إلا أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وحقاً تقولها، وحقاً هي لله، (قل: آمنت بالله) ومن الإيمان بالله إفراد الله بالعبادة، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والعبادة كلها لله، وتقديم المعمول -كما يقولون- من أدوات التخصيص والحصر، فاحصر العبادة لربك، وكذلك الاستعانة احصرها بربك، فلا يعينك على أمورك في الدين والدنيا والآخرة إلا الله، وفي الحديث المتقدم: (ولو أن الإنس والجن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) فمن الذي يعينك على دينك؟ ومن الذي يوفقك للعمل؟ ومن الذي يهديك للصواب؟ ومن الذي يعطيك القدرة للقيام والعمل؟ هو الله وحده لا شريك له، نستعين بك على كل شيء، ومن ذلك العبادة، وإذا كان الأمر كذلك فبأي طريق تسلك العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] الطريق الذي نستمر عليه ونستقيم عليه في عبادتك، وفي أداء حقك علينا، فيما أوجبت علينا يا الله! وما هذا الصراط؟ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] .
ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ قال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، ما قال: قدوة، ولا امتثالاً، بل قال: (رَفِيقًا) على هذا الصراط المستقيم، كأنك تسلك صراطاً سلكه من هو خير منك، من نبيين وصديقين وشهداء وصالحين، وأنت تسير معهم، أي صراط تريد أفضل من هذا؟ أي وجهة تولي وجهك سوى هذه الوجهة؟ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم: الذين علموا وتركوا العمل والضالون هم: الذين عملوا بغير علم، والأولون هم اليهود؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، والآخرون هم النصارى؛ لأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، فتطلب من الله في هذه السورة الكريمة الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتسأله أن يجنبك السبل والطرق الأخرى، بأن يجنبك طريق العلم مع ترك العمل، ويجنبك طريق العمل بلا علم، والاستقامة بين هذين الطرفين، فإذا انتهيت من سورة الفاتحة يباشرك في كتاب الله، أول ما يأتيك في المصحف الشريف سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، سألت الله الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذا الكتاب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ريب فيه هدىً للمتقين، تسأل الله الهداية؟ فهي في هذا الكتاب، تسأل الله الصراط المستقيم؟ فهذا هو الصراط المستقيم، ومن هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3-5] .
أيها الإخوة: نجد أول المصحف الكريم في سورة الفاتحة يتعبدنا الله في كل يوم على عدد ركعات الفريضة سبع عشرة ركعة نقرأ فيها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، ونجد المقدمة إيماناً بالله وتمجيداً لله، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي.
وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: مجدني عبدي) إلى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل) .
وإذا قرأنا سورة البقرة وجدنا فيها أكثر من أربعين قضية تشريعية اجتماعية وأخلاقية ومعاملات سواءً كانت في القضاء أو في الحقوق أو في الدماء أو في غير ذلك.