ثانياً: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة، كان وحده في بيته، فاجتمع على باب بيته عشرة رجال أشداء بسيوفهم ليقتلوه، وقد تآمرت قريش -كما علمنا- في دار الندوة، فقيل: نقتله، فقال بعضهم: لا تستطيعون، فقيل: نحبسه، فقال بعضهم: يفكونه، فقيل: نخرجه من مكة، فقال بعضهم: سيأتيكم بقوم فيحاربونكم، فكل الآراء تعارضت، ولكن الشيخ النجدي -وهو الشيطان- دخل عليهم، وقال: القول ما قال فلان، اجمعوا له عشرة رجال من القبائل، وأعطوا كل واحد منهم سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا القبائل كلها، فيقبلون بالدية ويسكتون، فقريش كلها -والعرب تبع لأهل مكة- تآمروا واجتمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وحده، وجاءوا فعلاً بالفتية ومعهم السيوف على باب البيت، فالمولى سبحانه أرسل جبريل فقال: يا محمد! لا تبت في فراشك الليلة، سبحان الله العظيم! محمد وهو في بيته يدبره رب العرش، ويصرفه ويحفظه سبحانه وتعالى، وكان الله قادراً أن يرفعه من سقف البيت كما في ليلة الإسراء والمعراج، عندما كان في بيت أم هانئ مستلقياً على ظهره، فإذا بالسقف ينفرج وينزل منه ملكان، فيأخذانه إلى زمزم، فكان يمكن أن يأتي ملك واحد يأخذه من سقف البيت، ويأتي له بالبراق، كما أتي له به في الإسراء، لكن حتى في الهجرة ما أتي له بالبراق، بل خرج من بيته واختفى في الغار، لتكون آية ومعجزة، وتظهر قدرة الله، ولتكتمل المعجزة، وكان من الممكن أيضاً أن يلاقوا أسداً أو فحل إبل على باب بيته فيشردوا، وكان من الممكن أن تأتيهم الزلازل والقلاقل أو الحيات والعقارب فيشردوا، لكن تركهم الله يأتون ويصطفون بأكمل استعداد، ويخرج صلى الله عليه وسلم من نفس الباب، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فأعمى الله أبصارهم وزاد إمعاناً في إذلالهم أن أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ولو كان خرج من السقف، لقالوا: والله! هذا شيء ما نقدر عليه، والله! هذا من السحر الكامل، لعل الجن أتت معه، لكن لا، هم على ما هم عليه، وأنجاه الله من الطريق المعتاد من بين عشرة فرسان، ولا أحد منهم فتح طرفه ورآه وهو خارج، فهذا من الإعجاز الذي يبين قدرة الله، وما خرج وهو يجري، بل على مهله، وجعل التراب على رءوسهم واحداً واحداً، فبينما الخائف يجري خوفاً أن يلحقه أحد، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج وهو مطمئن القلب ومستقر الفؤاد، موقن بحفظ الله، وبرعاية الله، ويعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بما كتب الله عليه، والله قد وعده بإبلاغ الرسالة.
فلو أن الإنسان وقف عند هذه المسألة، وعلم علم يقين أن الأمة كلها لو اجتمعت على نفعه أو ضره فلن تقوى عليه لطابت نفسه، ولما توجه مازحاً ولا صادقاً في صغيرة ولا كبيرة لغير الله، وأي غنى، وعز، ورفعة، أعظم من أن تكون مرتبطاً بالله، فيما ترجو أو تخشى؟ وأي ملك واستغناء أن تشعر بأنك غني عن الناس كلهم غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم؟ لا، والله! لا يوجد أعظم من هذا.