تميز الإنسان بغريزة العقل وقالوا عنه: حيوان ناطق، أي: مفكر، واشترك مع الحيوانات في غريزتين: الغضب في السبعية، والرحمة والصلة، فإذا غلب على الإنسان جانب الحيوانية كان كالسبع، وإذا غلب على الإنسان جانب العاطفة كان أقرب إلى عالم آخر هو عالم الملائكة، والذي يتحكم في ذلك هو العقل، كما قال عنه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة -أي الذي يصرع الناس- ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، ولذا قال ابن المبارك: القوي الناجح التقي -فعلاً- من يملك نفسه عند أربع: الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، أعتقد أنه لا يقوى على هذا إلا الأبطال، فالرغبة: حينما ترى موضع الطمع؛ تجلد، اصبر، لا تندفع، يقول الشاعر: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الأنصار بصفة كاملة، فقال: (إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع) ، قياس عجيب، ومقابلة بديعة، عند الطمع حينما تستشرف النفوس، وعند العطاء، وعند وجود الخير، حينما يتطلع كل إنسان ليحصل على أكثر ما يكون؛ يقلون، ولا ظهور لهم، تعففاً واستغناءً، وعند الفزع والنجدة يكثرون، الواحد منهم كعشرة من غيرهم، والله امتدحهم في قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يوقى هذه الغريزة وهي شح النفس {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
وامتلاك النفس عند الشهوة، كحديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وجاءت الصخرة وسدت عليهم فم الغار، فما أنجاهم الله إلا بعد التوسل بخالص أعمالهم، لا بزيد ولا بعمرو، فلم يكن يعلم بمكانهم أحد، ولا يقوى مخلوق على إسعافهم، فقاموا وبينوا لنا الطريق السليم في التوسل إلى الله، وهو التوسل بالعمل الصالح، فيتوسل أحدهم بإيتاء الأجير حقه، ويتوسل الآخر ببر والديه وتقديمهما على أولاده، ويتوسل الآخر بهذا الموقف الخطير حيث قال: إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها فامتنعت، فأخذتها سنة من السنين المجدبة، فجاءت تطلب عشرين ديناراً، فقلت لها: أعطيك على أن تخلي بين وبين نفسك!! ثم دفعتها الحاجة، قال: فلما أجابت وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها الدنانير، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فتدحرجت الصخرة، وخرجوا يمشون في الفضاء، موقف عجيب! لو جيء (بونش) ليقيم الإنسان وهو تحت تأثير رغبته وشهوته ما استطاع أن يرفعه إلا وهي معه، ولكن مخافة الله أيقظت فيه الضمير عندما قالت له: (اتق الله) ، وتقوى الله هي كل شيء.
فليملك الإنسان نفسه عند الشهوة، وعند الغضب كذلك، ففي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب) ، وفي بعض الروايات: (لا تغضب فإن كثرة من في القبور من الغضب) نعم، فتشوا، وشكلوا لجاناً، وكل منكم يسأل: هل طلق زوج زوجته إلا بغضب؟! وهل قتل القاتل إلا بغضب؟! وهل اغتصب غاصب مغصوباً إلا بغضب؟! وهل اعتدى إنسان على إنسان إلا بغضب؟!