لو طبق كل مسلم هذا الحديث في نفسه، وبيته، وسوقه، وعمله، والتزم حدوده؛ لصار دولاب الحياة منتظماً، ولو ترك كل إنسان ما يعنيه وتدخل فيما لا يعنيه لتعطلت الحياة، وصار هذا يتجسس على هذا، وهذا يتدخل في شئون هذا، وهذا يفسد أمر هذا.
وأخطر ما يكون ما نراه اليوم، تجد الفتاة تتزوج، وتعيش مع زوجها في أحسن ما يكون، فتأتي أمها لتزورها وتقول: ما هذا العفش يا بنت؟! أهذه حياة؟! لماذا لا تكلمي زوجكِ؟! أنتِ ما عندكِ نظر! ما عندكِ لسان! كذا كذا والبنت كانت راضية بمعيشتها مع زوجها، فالأم ما يعنيها في حياة الزوجة مع زوجها؟ ثم تخرج الأم من البيت، ويأتي الزوج، وكان قد ترك زوجته في أحسن ما يكون من البشاشة والسرور، فيرجع وإذا الدنيا متغيرة، وتخاصمه: أنت ما فعلت لي كذا، وما فعلت لي كذا! وكل هذا بسبب الأم.
وكم من مفاسد تقع في البيوت بسبب ذلك، ومن العجب! أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إذا رأى والد المرأة زوجها يضربها فلا يسأله: لماذا يضربها؟ ولا يتدخل فيما لا يعنيه، فهذا أمر بين الزوجين.
ولهذا -يا إخوان- من حكمة التشريع الإسلامي ومحاسنه: أنه جعل الخلافات الزوجية مستترة خفية في غرفة النوم بين الزوجين إلى أن يعجزا عنها، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} [النساء:34] ، وقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] ، هل قال: أحضروا أمها وأباها؟! لا والله! هل قال: نادوا الجيران؟! لا، وإنما قال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ} [النساء:34] قبل أن يقع النشوز، ماذا نفعل؟ قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فإذا رأى منها بوادر النشوز، يبدأ يعظها بالموعظة الحسنة؛ لأن من مبادئ الإسلام اختيار الزوجة على مبدأ الدين، (تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولمالها، ولجمالها، وادينها، فاظفر بذات الدين) ، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] ، فإذا كانت الزوجة -على مبدأ الاختيار الإسلامي- ذات دين، وحصلت هفوات ولا أحد يسلم، فتكون الموعظة، والموعظة أول ما تؤثر في ذات الدين، فالموعظة ستجد طريقها، وإذا كانت المشكلة أكبر، فاهجروهن، وأشد ما يكون ثقلاً على المرأة أن يهجرها زوجها في الفراش: {فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] ، وكأنه يقول لها: سلاحكِ الذي تتسلطين به عليَّ باطل ملغي لا تأثير له، ويعطيها ظهره.
وإذا افتقدت المرأة سلاح أنوثتها، فلم يبق عندها إلا البكاء أو المكيدة، وإذا كانت مؤمنة فالمكيدة منسية، فإن نفع هذا الهجر فبها ونعمت وإلا ضربها، لا للتشفي، ولكن للتهذيب، والتوجيه، والتنبيه، والإنابة، فإذا عمل بهذه المراحل الثلاث بأقصى جهده، وعجز عن حل الخلاف، فكما قال الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ، لا تذهبوا بعيداً، وتشنعوا عليهم في الحارة كلها! {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ؛ لأن أهلهما أحرص على المصلحة، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] .
إذاً: لا يتدخل الأبوان في شئون الزوجية إلا إذا عجز الزوجان، ولا تأتِ الأم لأول وهلة وتتدخل في شئونها، وفي لبسها، وأكلها، وفراشها، وفي معاملة زوجها لها، فمن الخير أن تترك الأم ابنتها مع زوجها، ولو سمعت بخلاف بينهما وتركتهما يعالجان القضية؛ لأن البنت قد تتحمل على نفسها فيما بينها وبين الزوج ما لا تتحمله في حضور أمها، وقد تأخذها الحمية لأهلها.
إذاً: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وكم من امرأة طلقت من زوجها بسبب أهلها أو أمها أو أخيها! يكون الأخ بينه وبين الزوج مخاصمة ومحاكمة، فيتدخل في شأنهما.
لو طبق هذا الحديث في أي مجال من مجالات الحياة؛ لسلم المجتمع من كل فضول، ولصار كلٌ في طريقه يؤدي ما عليه، ويأخذ ما له، وإذا أخذ ما له ووقف عند حقه، وأدى ما عليه ولم يقصر في واجبه؛ كان المجتمع كله مجتمعاً سليماً سعيداً.
ونكتفي بهذا القدر من التوضيح لهذا الحديث النبوي الشريف، وهو يشمل حتى الراعي مع الرعية، كما قال معاوية: (لو تتبع الأمير الرعية لأفسدهم) أي: لو كان يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، لفسدوا، لكن لو ظهر هناك مخالفة وإفساد، فلا مانع، لكن لا يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، سواءً أساءوا أو أحسنوا، فلا ينبغي ذلك.
وبالله تعالى التوفيق.