قوله عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، مأخوذ من قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] .
وهل يوجد تعارض بين الآيتين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] والآية الأخرى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ؟ وهل قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة أم لا؟ يذكر بعض علماء التفسير أن آية {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة، وقالوا: لما نزلت: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ذهب الصحابة يبكون إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: من الذي يستطيع أن يتقي الله حق تقاته؟! فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فنزلت: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [آل عمران:102] ، فما فرحوا بشيء مثل فرحهم بهذه الآية، وقالوا: إنها نسخت: {حَقَّ تُقَاتِهِ} .
وآخرون يقولون: ما نسخت، وبيان حق تقاته يشير إليه آخر الآية: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، والإسلام أعم من حقيقة التقوى؛ لأن الإسلام أعمال ظاهرية تأتي بعده رتبة أعلى منه وهي: الإيمان، ثم تأتي رتبة أعلى من الإيمان وهي: الإحسان، والتقوى هي رأس مال المسلم، وهي نهاية كل شيء.
فقالوا: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] هي: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والدوام على هذا الالتزام حتى الموت، كما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: التزموا واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه.
إذاً: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] القول فيها يدور بين النسخ وبين عدم النسخ، وتفسير حق تقاته بما جاء في آخرها: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
وبهذه المناسبة يقولون: إن ترك المعاصي كلها لا يقوى عليه إلا الصديق، وفعل المأمور به قد يقدر عليه كل الناس بقدر الطاقة؛ ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (عجب ربنا لشاب ليست له صبوة!) لأن ترك المعاصي ليس بالأمر الهين.
ولما سئل أيهما خير: شخص تراوده نفسه لعمل المعاصي فيكف أو شخص لا تراوده نفسه أبداً؟ فأيهما أقوى وأفضل عند الله؟ قال: الشخص الذي تراوده نفسه ويمنعها أفضل من الشخص الذي لا تراوده نفسه.
وبهذا نعلم تفسير قوله تعالى:: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ونعلم وجه الرج على من قال: كيف يهم بها وهو نبي؟! وقد أجاب العلماء بأن الهم الموجود عند يوسف عليه السلام هو الدواعي الجبلية في الإنسان، فأي إنسان كان جائعاً ورأى طعاماً، فالنفس بطبيعتها تشتهي هذا الطعام، ولكن يأتي بعد ذلك النظر: هل هو حلال فيأكل منه أو هو حرام -كأن يكون ملكاً لغيره أو محرماً لذاته- فيكف عنه؟ لكن رغبة النفس موجودة، فالقدرة هنا والعفة والتقى أن يكف يده عما ليس له فيه حق.
ولو كان مريضاً سقيماً ولم يأكل منه لتلك العلة، وقال: أتعفف عن الحرام، وليس الأمر كذلك، وإنما الذي منعه المرض، أما نبي الله يوسف فلو لم يكن لديه ميل فطري، وغريزة الجنس؛ لما كان مكتملاً من الناحية الإنسانية، قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] إذاً: هو كف الهم الجبلي الذي يراود النفس، ولكن عصمه الله، فكف عن الحرام مع وجود الدوافع؛ وهنا تكمن قيمة العفاف وفضله، لا ذلك العجز الذي يريد البعض أن يصفوا به نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام.
إذاً: المرأة كانت حريصة غاية الحرص على أن يحصل ما همت به، فغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، ولكن هو ما هم، ولا حرص أن يفعل، وإنما عرضت عليه خطرات النفس البشرية، ولكنه كف مع وجود الدوافع، والحرص على الفعل قد يكون له حكم الفعل كما في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، ففرق بين من هم وكان همه مجرد خطرات تتردد في النفس، وبين من هم هماً جازماً مؤكداً وما رده إلا العجز والتقصير.
إذاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] على بابها، و {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] أي: التزام الأوامر واجتناب النواهي، ولا يقوى عليه إلا الصديقون -كما قيل- والله تعالى أعلم.
وأظن أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه وعلينا تناول هاتين الآيتين فيما في كتابه: دفع إيهام الاضطراب، وهي من مواضع قصيدة (نظم السيوطي) فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، وللشيخ رحمه الله شرح على هذه القصيدة أملاه عليّ.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل طلبنا للعلم خالصاً لوجه الله، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.