بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، الأمر مبني على الاستطاعة، بخلاف النهي فهو للاجتناب، ولِمَ لا يكون الأمر بدون قيد الاستطاعة؟ ولِمَ لا يكون النهي مقيداً بالاستطاعة؟ قالوا: لأن الترك عدمي: اتركه، يعني: كف عنه وابتعد عنه، بدون قيد ولا شرط، أما المأمور به فقد يكون ذا شروط، وذا جزئيات، وقد تتوافر الشروط كلها، وقد لا تتوافر كلها، فإذا لم تتوافر كل الشروط فيؤتى منه قدر المستطاع، ولا يترك بالمرة.
فمثلاً: الصلاة مأمور بها، ولها شروط مثل: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة.
وكل هذه من شروط صحة الصلاة، فإذا لم يستطع توفير كل شروط الصلاة، فهل يترك الصلاة أو يفعل من شروطها ما استطاع؟ يفعل ما استطاع.
وإذا عُدِم الماء انتقل إلى التيمم، وإذا فَقَدَ الطهورين، فيصلي صلاة عادم الطهورين.
وإذا لم يكن لديه ما يستر كامل العورة، وعنده ما يستر السوأتين فقط، فهل يترك الستر مرة واحدة أو يستتر بالموجود؟ يستتر بالموجود، حتى قال بعض العلماء: لو أن إنساناً سرقت ثيابه، وليس عنده ثوب يصلي به بالكلية، وبجواره نهر، فليدخل في النهر حتى يستر به عورته، ويقول: ويذكر بعض العلماء كـ النووي وغيره: إذا لم يكن هناك ماء، وهناك طين في الأرض، فهل يدهن نفسه بالطين حتى يستر عورته أم لا؟ لسنا بصدد هذا، وإنما أردنا الإشارة إلى أن الفقهاء ذهبوا إلى اعتبار الاستطاعة.
وإذا عجز الإنسان عن الصلاة قائماً فليصل قاعداً، وإن عجز عن الجلوس اضطجع، لقوله: (فأتوا منه ما استطعتم) ، ولا تسقط الصلاة بالكلية.
وفي ساحات المعارك عند احتدام القتال لا تسقط الصلاة، بل يصلون بقدر المستطاع، إما جماعة وإما وهم يكرون ويفرون، ولهم أن يصلوا بقلوبهم وألسنتهم، ولا يتقيدون باستقبال القبلة؛ لأنهم ما استطاعوا، والآية الكريمة تقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وأيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فكل العبادات والأوامر في الشرع مبناها على الاستطاعة، وهذه أمثلة في الصلاة.
نأتي إلى الزكاة: ليس بلازم على كل شخص أن يعمل ويكتسب ليبلغ عنده النصاب فيزكي، ولكن بحسب استطاعته إن ملك نصاباً وحال عليه الحول زكى، وهل الحكم مبني على الاستطاعة أو على الإلزام؟ على الاستطاعة.
وفي الصيام: إذا عجز عن الصيام لسفر أو مرض {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
وفي الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] .
وفي الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] .
وهكذا جميع العبادات والتكاليف مبناها على الاستطاعة.
وقوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ، كل النواهي مقدور على تركها، وهناك بعض الجزئيات من النواهي لا يتأتى تركها، وجاءت النصوص بالرخصة فيها، مثل الرخصة في أكل الميتة المنهي عنها، وهكذا الرخصة في ارتكاب أخف الضررين، فإذا غص أحد بطعام وليس عنده ما يسيغ به اللقمة إلا الخمر، وقد يموت بسبب حبس الهواء عن رئتيه بسبب اللقمة التي سدت البلعوم، قال الفقهاء: له أن يزيل الغصة عن نفسه ولو بجرعة خمر، لكن لا يشربها للعطش؛ لأن الخمر لا تذهب العطش بل تزيده.
إذاً: جميع المحرمات مقدور على تركها {لا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، {لا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151] ، {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام:151] كل هذه يمكن للإنسان أن يكف عنها، ولا يقع فيها إلا بنوازع الشر، وكان في مقدوره الإنساني وطاقته البشرية أن يكف عنها.
إذاً: جميع المنهيات مقدور على تركها، وليست جميع الأوامر مقدور على إتيانها؛ لأن لها شروطاً قد يعجز عنها فخفف الشرع فيها، وجعلها بقدر المستطاع.
انتهى شرح قوله صلى الله عليه وسلم:.
(ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه كلام جميل جداً على كلمة (فاجتنبوه) عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ، فمن أراد أن يتوسع في معنى الاجتناب فليرجع إلى أضواء البيان عند تفسير هذه الآية الكريمة.