إذاً: ليست هناك حرية في الأديان كما يقولون، وإذا جئنا إلى هذه القضية في هذا النص عملياً، نأتي ونقول: الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة شُرع القتال، وخرج إلى بدر، فهل كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن النفس، أم إلى عير وتجارة لقريش؟ وهل كان خروجه اختياراً أم اضطراراً؟ لقد كان خروجه اختياراً وابتداءً: قال لهم: (هذه عير لقريش اخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) فخرجوا إليها، وفي الطريق علم صلى الله عليه وسلم أن العير قد نجت، وأن النفير قد أقبل، -قبل أن يصل إلى بدر- فكان بوسعه أن يرجع، ولكن يعلن ويقول: (إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير، وإما النفير) ثم ما وقع في تلك الغزوة من أمور فوق طاقة البشر تخطيط من المولى سبحانه {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] في الجبهة، الناحية نفسية كما يقولون: التعبئة يقلل هؤلاء في أعين أولئك، ويقلل أولئك في أعين هؤلاء، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ} [الأنفال:43] لأنهم ذليلون ما لهم شيء، لو رأوهم على حقيقتهم ربما خافوا، فالمولى سبحانه يخطط لالتقاء الفريقين على غير موعد، ثم هو سبحانه يري هؤلاء أعداءهم أقل منهم، وبالعكس مع أننا عرفنا حقيقة الموازنة بأن هؤلاء: ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وأولئك: ما بين التسعمائة والألف، كل ذلك {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] ، وقد بين سبحانه سير المعركة فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] جاءت الملائكة.
إذاً: هذا أول شيء يجابه به أولئك الذين يقولون: القتال دفاع عن النفس.
لو تجاوزنا ذلك كله، وجئنا إلى غزوة تبوك، وهي على تخوم الشام، هل جاء الروم يقاتلون المسلمين؟ ما جاءوا، يقول: سمع بتجمعهم وتواعد معهم، ألم يكن من الممكن أن ينتظرهم عند خيبر، فلماذا ذهب إلى حدود الشام، وأوغل فيها وهو أصلاً لم ينته مما حوله بعد؟ وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي موقف أبي بكر مع أهل الردة، وعمر رضي الله تعالى عنه حينما يسير الجيوش إلى الشام، وإلى مصر، وتذهب إلى أفريقيا هل كان هناك عدو يقاتل المسلمين فيدفعونه عن أنفسهم؟ هل سمعنا بأن مصر قاتلت المسلمين في جزيرة العرب؟ بينما الجيش يذهب إليهم ويغزوهم ويفتح تلك البلاد، هل أفريقيا جهزت جيوشها لتقاتل المسلمين فيذهبون يدفعون عن أنفسهم؟ وتذكرون كلمة القائد المظفر الذي وصل إلى المحيط الأطلسي وخاض بفرسه البحر وقال: (والله لو كنت أعلم أن وراءك من المشركين من يقاتل لخضت هذا البحر إليه) ، الذين وراء البحر هل اعتدوا حتى يدفعهم عن نفسه؟ لا والله.
نرجع مرة أخرى ونقول: إن من يقول: إن الجهاد في الإسلام دفاع عن النفس، قتلوا روح الجهاد في سبيل الله، وصرفوا الناس عن التعبئة للجهاد في سبيل الله، وأصبحت كل دولة في موطنها تحافظ على حدودها، وتكون سعيدة إذا سلمت من غيرها، ودخلت السياسة في أمور الناس، وأصبح الوضع على ما هو عليه، بصرف النظر رفعت راية الجهاد أو لم ترفع، فإن القتال في سبيل الله مشروع وكتاب الله ينادي بذلك، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) .
بقي من الذي سيقاتِل؟ ونقاتل من؟ إن وضع الأمة الحاضر بنظمها السياسية، وارتباط العالم بعضه ببعض على هذا الوضع، لا يمكن لأمة وحدها، أو: لدولة وحدها أن ترفع راية الجهاد لتقاتل جميع المشركين، ليس في وسعها ذلك، ولا نريد أن نتعرض إلى قرارات هيئة الأمم، وميثاق وحقوق الإنسان، والتزامات الدول وو إلى آخره, ولكن يهمنا من حيث البحث العلمي أن نعلن ونؤكد ونقول: إن باب الجهاد مفتوح، لإعلاء كلمة الله، وليشهد الناس أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عُصموا، وفي آية براءة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، والأخرى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فإذا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، وإذا لم يفعلوا ذلك فالمعنى: أننا نقاتلهم، ولذا يجب أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعندها يجب ويتعين تسيير الجيوش إلى المشركين.
ولذا بعض العلماء يقول: من واجب إمام المسلمين أن يغزو سنة ويحج سنة، يقول: إعلان الجهاد كأداء مناسك الحج، كما كان هارون الرشيد رضي الله تعالى عنه يفعل ذلك، كان يحج سنة ويغزو سنة.