وهنا مسألة يجب أن نتوقف عندها: ذكر صلى الله عليه وسلم أنهم إن شهدوا الشهادتين وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، عصموا الحديث، لماذا لم يذكر بقية أركان الإسلام والتي هي الصوم والحج؟ إن جميع شراح الحديث وخاصة أصحاب الأربعين يقولون: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصوم ولم يذكر الحج لاحتمال أن يكون هذا الحديث قبل مشروعية الصوم، وقبل مشروعية الحج، والآخرون يقولون: هو إنما ذكر الأصلين لقسمي التكليف؛ لأن العبادات إما بدنية محضة وهي الصلاة والصوم، وإما مالية محضة وهي الزكاة، وإما تجمع بينهما كما في الحج والجهاد، فاكتفى صلى الله عليه وسلم بذكر الصلاة ويتبعها الصيام؛ لأنه عبادة بدنية، وذكر الزكاة ويتبعها الحج؛ لأن فيه عنصر المال، وهذه خلاصة أقوال شراح الحديث.
وهنا قول ثالث: إن الحديث جاء بأن أمر أن يقاتل الناس جميعاً حتى يعلنوا ما يمكن إعلانه، أما ما خفي فحسابهم على الله، والذي يمكن أن يظهر ويعلن ويشهد عليه: هو ما نص عليه في الحديث بأن يشهدوا فنسمع، ويصلوا فنشاهد، ويؤتوا فنقبض، أما الصوم فأمر خفي وأما الحج فعلى من استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة أمر خفي، فلذا نقول -والله تعالى أعلم-: لم يذكر صلى الله عليه وسلم الصوم؛ لأنه أمر خفي، وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي) لا من أجلكم أنتم، فلا يستطيع أحد أن يقول: نقاتل فلاناً؛ لأنه لم يصم، إلا إذا رأيناه يأكل بأعيننا، هذا شيء آخر، لكن بدون أن نراه يأكل أنستطيع أن نقاتله بدعوى أنه صائم، أو غير صائم؟ كما لا نستطيع، لا نستطيع أن نقاتل إنساناً لأنه لم يحج؛ لأن الحج مبناه على الاستطاعة، وقال صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة (الزاد والراحلة) ونحن لا ندري حاله فيهما.
والخلاصة أن الأقرب في عدم التنصيص على الصوم وعلى الحج؛ لأن الصوم والحج عملان خفيان لا يطلع عليهما إلا الله عز وجل وليسا بظاهرين.
ويقول بعض العلماء المتأخرين: نحن نكتفي من الناس بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنحكم بالإسلام، فإذا التزموا بلا إله إلا الله محمد رسول الله حكمنا بإسلامهم، ومن ثم نطالبهم بالصلاة، ونطالبهم بالزكاة، ونكلفهم بالصوم، وبكل أركان الإسلام؛ لأنه إذا نطق بالشهادتين فمعنى ذلك أنه نفى كل الآلهة إلا الله واعترف بالله وحده، فإذا عبد غير الله ناقض شهادته، وناقض التزامه، وإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، وعبد الله بغير ما جاء به محمد الرسول، فيكون بذلك قد رفض شيئاً مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه رد شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] قالوا: إذا نطق بالشهادتين حكمنا بإسلامه، ثم بعد ذلك نطالبه ببقية أركان الإسلام، فإن امتثل وأطاع وإلا اعتبرناه مرتداً وقتلناه، وليس قاتلناه، فإن لم قد تعلم بعد، نعلمه حتى يتعلم أركان الإسلام، ولهذا قالوا: أركان الإسلام وتعاليم الإسلام إذا قصر فيها حديث عهد بالإسلام سواء كان في الجاهلية أو اليوم نعذره ونمهله حتى يتعلمها وحتى نبينها له، فإذا التزم بها فبها ونعمت، وإلا كان مصيره آخر.
إذاً: عدم ذكر الصوم، وعدم ذكر الحج لا لأنهما غير مشروعين بل لما قد علمتم، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث وإنما أسلم في العام السابع من الهجرة، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، ومشروعية القتال والجهاد كانت موجودة قبل ذلك.
والصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة في شعبان، إذاً: كان الصوم مشروعاً من قبل، وكذلك الزكاة في السنة الثالثة، إذاً: الصيام والزكاة كانا مشروعين فلا يقول إنسان: كان الحديث قبل مشروعية الصيام، ولكن الأولى أن يقال: إنه إذا التزم بالصلاة والتزم بالزكاة فحينئذ يكون الأمر على هذا، ويُلحق به البقية كما يقول البعض، ويستشهدون بحديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما أرسله النبي إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يذكر صوماً ولا حجاً، ومعاذ إنما ذهب إلى اليمن في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ترك ذكر الصيام الحج إما لأنه أمر خفي، وإما لأن الأمر يأتي بالتدرج، فإذا التزم بالصلاة وهي عبادة بدنية أُلحق بها الصيام وهو كذلك عبادة بدنية.
والكلام عن الحديث بصفة عامة يرجع إلى حقيقة القتال، وعلى ما يكون القتال؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (أمرت) فما دلالة الأمر هنا؟ وهل الحكم في ذلك يشمل من يأتي بعده؟ ثم يمكن أخذ موقف الصديق رضي الله تعالى عنه شاهداً على ذلك، مع بيان من الذين قاتلهم الصديق؟ وعلى أي شيء؟ ثم حكم الجهاد على الأمة أهو فرض عين، أم فرض كفائي؟ ومتى يسقط الجهاد عن الأفراد؟ ومتى يتعين؟ وعلى أي شيء يكون؟ وأحكام الحهاد وآدابه، وثمرة الجهاد وثوابه، وكل هذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.