ثم ذكر في نهاية هذا الحديث التشبيه البليغ الواضح البين، وضرب الأمثال من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ورد في القرآن الكريم ضرب الأمثلة، وتشبيه الأمر المعنوي بالمحسوس، ليصبح واضحاً ظاهراً لكل الناس، من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، ماء في قاع البئر أو في النهر أو في الغدير وهو بعيد عن لمس اليد، فيأتي رجل يبسط كفه إليه ويفتح فمه، وينتظر الماء أن يأتيه!! والماء لن يأتيه إذا ناداه أبداً، ولكن كأن هذه صورة -كما يقولون في العصر الحديث- كاريكاتورية لإنسان عطشان، ويتخذ طريقاً غير الطريق الذي يوصله إلى الماء، وهنا يبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمور المشتبهة ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها؛ لأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، فيجب عليك أن تجعل بينك وبين الحرام حاجزاً، كما يقولون: منطقة محايدة، لا تقربها؛ لأنك إن دخلت تلك المنطقة لم يبق ما يحجزك عن الحرام، فإن زلت القدم زلت في الحرام، أما إذا جعلت منطقة محايدة وكنت خارج المنطقة، فإن زلت قدمك زلت في هذه المنطقة المشتبهة وترجع، لكن إذا اقتحمت المنطقة المشتبهة فزلت القدم فستنزل في الحرام، على سبيل المثال: هناك رأس جبل عنده هاوية، وهناك حافة حاجزة عن تلك الهاوية، فإذا مشيت من وراء الحافة، وصرت تلعب وتمرح خلفها، فإن سقطت وقعت على هذا الحاجز، لكن إذا مشيت فوق هذا الحاجز، وصرت تلعب عليه، فإن زلت قدمك وقعت في الهاوية، والراعي حول الحمى إن ابتعد عن الحمى كان في عافية من الحمى؛ لأنه بعيد جداً، لكن إن جاء على حدود الحمى فهل يضمن أن غنمه لن تفر إلى الحمى؟ لا، وإذا فرت واحدة منها إلى الحمى فالملك سيعاقبه ويأخذ غنمه كله، لكن إن بعد مسافة مائتين أو خمسمائة متر، فمهما شذت شاة عن الغنم لن تبعد عن مائة متر، ويمكنه أن يدركها قبل أن تنزل إلى الحمى، وهكذا.
ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالتشبيه التمثيلي فقال: (ألا وإن لكل ملك حمى) ، ولا يمكن لأحد من الرعية أن يقتحم حمى الملك، وحمي الحمى مشروع، فقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم حمى جهة النخيل، وحمى جهة وادي الفرع، وكان يحمي لإبل الصدقة مواطن خاصة ترعى فيها ولا يدخل فيها نعم الناس.
وتقدم معنا قصة أنعام عثمان وعبد الرحمن بن عوف في درس الموطأ، فحماية الحمى لإبل الصدقة أو للمصالح العامة مشروع لا للأفراد ليستغلوه دون الآخرين، ويجوز أن يكون للملك حمى لدوابه ولمصالحه؛ لأنها تعود على مصالح الأمة، والله سبحانه له حمى في خلقه، ما هو الحمى الذي حماه الله، ومنع الناس أن يدنوا منه؟ حمى الله هي محارمه، ليست بأراضٍ ولا بساتين، ولا مراعٍ، رغم أن الأرض كلها ملك لله، ولكن الله حمى ومنع وحرم المحارم، ومن هنا يقول علماء الأصول في حكمة التشريع: ما أقامه الله من حدود على المحارم فقد جعله لتلك المحارم حمى، ونحن نعلم أن المحارم تدور حول الأديان والعقول والأنفس في الدماء والأموال والأعراض والأنساب، فحرم الله الردة حماية للدين، وحمى الردة البدع، فحرم البدعة؛ لأنها تسوق إلى الردة عن الدين عياذاً بالله، وعقوبة المرتد القتل لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) ، ومن ابتدع لا يقبل عمله، لحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحرم قتل النفس وإراقة الدماء، وجعل فيها القصاص قال الله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، وجعل للنفس حمى، فلا تعتدي عليها بالضرب؛ لأنك إن اعتديت عليها بالضرب -وهو ليس قتلاً للنفس- جر الضرب إلى ضرب أكثر إلى أن يصل إلى ضربة قاضية، وحرم الله الزنا، وجعل فيه حد الجلد أو الرجم، وجعل للزنا حمى، إن ابتعدت بعيداً عن هذا الحمى سلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجل مع امرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ، فإذا كنت بعيداً عن هذا الحمى سلمك الله من الزنا، فالزنا حرمه الله وجعل له حمى ووقاية، منطقة محايدة، ومنطقة صيانة، فإذا لم يخل بامرأة، وغض بصره، فهل يصل إلى الزنا؟ لا يصل إلى الزنا.
وكذلك في الأموال حرم السرقة، وجعل للمال حماية، فنهى عن الغش وعن التدليس، وعن كل ما يسمى أكل أموال الناس بالباطل.
إذاً: من اتقى الشبهات فقد استبرأ، ومن ابتعد عن حمى الله سلم أن يقع فيه؛ لأنه إذا لم يخل بالمرأة، ولم يقع بينهما شيء من الملامسة لا يصل إلى الزنا، لكن إذا اجتمع بها وخلا بها، ووقع بينهما ما دون الزنا فما الذي سيمنعه ويحجزه عن الزنا؟ لا شيء، وهذا يسميه العلماء: التكميلات، أي: تكميلات لحفظ الضرورات التي جعل الله لها الحدود للزجر عنها.
(ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) يعني: إذا كانت هناك حالة مشتبهة بين أن تكون من محارم الله أو من المباحات فعليك أن تستبرئ لدينك وتترك الأمور المشتبهة حتى لا تقع في حمى الله الذي حرمه عليك.