الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن اتقاء الشبهات معراج أو سلّم أوله في الأرض وآخره في السماء، فبعض الناس يرى الكبيرة العظيمة (كذبابة على أنفه قال بها هكذا) كما جاء في الحديث، وبعض الناس يرى الشبهة كأنها جبل على رأسه، وما كل الناس في اتقاء الشبهات سواء، يوجد أشخاص نفسياتهم شفافة، لو نفثت عليها بالهواء تأثرت، كالمرآة الصقيلة في الشتاء إذا جعلتها إلى فمك وتنفست، يخرج من المعدة بخار، فيتكاثف مع برودة الجو على المرآة فيعمل مثل السحابة، فبعض الناس من شفافية نفسيته وتحريه للحلال فإن الشبهة تؤثر فيه كسحابة حرام، وبعض الناس يبلعها ولا يبالي، والأمر عنده واسع، فالناس ليسوا سواء.
وأقرب مثال عندنا قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه عندما جاءه خادمه بطعام، فلما أكله تأثرت نفسه، سبحان الله! الطعام ما وصل إلى جوفه إلا وأحس بحساسية، فنادى الغلام وقال له: تعال! من أين هذا الطعام؟! قال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل، وأنا والله! لست بكاهن -يعني: خدع الرجل- فلقيني الآن، وأعطاني حلواناً فاشتريت به كذا وكذا، فوضع أبو بكر رضي الله تعالى عنه أصبعه في حلقه واستقاء ما أكله، فما الذي حرك نفسية أبي بكر من هذا الطعام؟ هل كان فيه ملح زايد أو شطة أو شوك؟! كذلك عمر رضي الله تعالى عنه أرسل غلامه ليأتيه بحليب من إبله، فذهب وجاء فلما شرب الحليب استنكر طعمه، قال: تعال يا غلام! من أين جئتني بهذا الحليب؟ قال: والله! أرسلتني آتيك بحليب من إبلك، فوجدت الرعاة قد أبعدوا بها، ولقيت إبل الصدقة على الماء فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فجئتك بلبن من إبل الصدقة، فقال أمير المؤمنين: آكل الصدقات؟ أحس في نفسيته هذه الحساسية، ويمكن نسمي هذه الحاسة السادسة حاسة الحلال والحرام، لا يكشفها بارومتر ولا ترمومتر ولا أي شيء من هذه المقاييس المادية مهما كانت، وهي تكشف الأمور العضوية، والكثافة، والدسومة، والخفة، والحرارة، والبرودة، لكن الحلال والحرام فهي أمور حكمية واردة على العين الواحدة.
إذاً: الإحساس والتوقف عند المشتبهات ليس كل الناس فيه سواء، فأيما إنسان صفت نفسه، وتعود أكل الحلال، ونشأ على الحلال فأقل شبهة تؤثر على نفسه.
أبو حنيفة كان تاجر بز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله في جانب، وهو آخر ثوب عنده من ذلك الصنف وكان معه في المحل من يعمل معه، فذهب أبو حنيفة ليقيل ثم رجع فإذا الثوب الذي عزله في جانب غير موجود، فسأل عنه فقال العامل: بعته، قال: بكم بعته؟ قال: كما نبيع الثياب.
قال: هل أخبرت المشتري بالعيب الذي فيه؟ قال: لا، وهل فيه عيب؟ -لم يدر العامل- لكن أبا حنيفة تصدق بكامل قيمة الثوب، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب فقط ولكن فعل ذلك ورعاً منه.
ويذكرون عن الإمام أحمد رحمه الله أنه خُبز عجين بيته في بيت فلان فامتنع أن يأكل منه؛ لأن فلاناً في ماله شبهة.
سبحان الله! بعضنا قد يأتيه خبز وإدام وشراب من رجل في ماله شبهة فيتلقاه بكل رحابة صدر.
وإلى عهد قريب كان الشيخ محمد بن تركي شديد الورع، وأهل المدينة يعرفون ورعه وزهده في هذه الأمور، فقد كان ورعاً إلى حد بعيد.
يتعين على المسلم أن يتقي الشبهة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي هذا المقام حقه، ولكن عليه بالمقاربة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع الناس عليه) .
وهذا هو التقسيم الثلاثي، وبيان موقف الأمة من هذه الأقسام: الحلال بيّن، ويقدم عليه كل إنسان، والحرام بيّن، يجب أن يحجم عنه كل إنسان، وبينهما أمور مشتبهة، إن نظرت إليها من جهة قد تكون حلالاً، وإن نظرت إليها من الجهة الثانية قد تكون حراماً، إذاً: ماذا تفعل؟! القليل الذين يعلمون حكمها كما قال: (لا يعلمهن كثير من الناس) ، ومفهوم ذلك أن يعلمها القليل، ولا تخلو الأمة من هذا القليل الذي يعرف حقيقة المشتبه، وإليه يرجع الناس، فإن كنت أنت من هذا القليل، تحريت وتحققت ثم بعد ذلك أقدمت على مقتضى ما علمت، وإن كنت من الكثيرين الذين لا يعلمون حكم هذا فموقفك منه الكف، (من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه) .