الجملة الرابعة: قوله: [(وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)] أي: أنه سكت عنها فلم يحرمها ولم يحللها، وإنما هي عفو، فالشيء الذي لم يأت ما يدل على تحريمه فالإنسان يأتي به ويفعله ولا يبحث عنه.
وهذا البحث والسؤال قد يكونان في زمن النبوة، وهذا الذي تترتب عليه مضرة، بأن يوجب شيء لا يستطاع، أو يحرم شيءٌ بسببه، كما جاء في قصة الرجل الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا.
قال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فأعاد السؤال، فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم).
فالله عز وجل أوجب الحج، ووجوبه في كل عام لا شك أنه في غاية المشقة، فدلالة اللفظ بمجرده تدل على أنه مرة واحدة؛ لأنه لا يستطاع أن يحج الناس جميعاً في كل سنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) أي: لا تسألوني مثل هذه الأسئلة التي فيها مشقة وتعسير وتشديد على الناس.
وكذلك كونه يسأل عن شيء فيحرم من أجل مسألته، وقد جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته).
أما السؤال بعد زمنه صلى الله عليه وسلم فكالأسئلة التي فيها تنطع وتكلف والناس في غنى عنها وليسوا بحاجة إليها، فلا ينبغي أن يسألوا مثل هذه الأسئلة ولا يبحثوا عنها، وإنما عليهم الانكفاف والإعراض وعدم الاشتغال بها، وعليهم الاشتغال بما يعود عليهم بالخير أما أن يشتغلوا ويعنوا بتفريع المسائل والتعمق فيها والسؤال عن أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها فهذا مما لا يفيد.
فعلى الإنسان أن يقف عند الحرام ويجتنبه، وأما الحلال عله أن يأتي به ويقدم عليه، وما سُكِتَ عنه فإنه لا يشغل نفسه به، وما كان من أشياء ليس فيها تحريم ولا تحليل فيرجع في ذلك إلى الأصل، فما كان الأصل فيه الحل فإنه يبقى على ذلك الأصل، وما كان الأصل فيه التحريم فإنه يبقى على ذلك الأصل، ولا يُشتغل بالتكلف والتعمق في المسائل التي لا يفيد التعمق فيها، وقد جاء ما يدل على المنع من ذلك، كما في حديث: (هلك المتنطعون).
وعلى هذا فهذا الحديث مشتمل على هذه الأربع الجمل: جملة تتعلق بالفرائض الواضحة المتعينة، وجملة تتعلق بما هو مشروع وسائغ، سواء أكان واجباً أم مستحباً أم مباحاً، وأنه يقتصر عليه ولا يتجاوز به الحد بحيث يتعدى، بل يوقف عنده، وجملة تتعلق بالحرام الواضح، فعلى الإنسان أن يتركه ولا يقع فيه، وجملة تتعلق بما كان مسكوتاً عنه، فإنه مما عفا الله عز وجل عنه، والإنسان له أن يأخذ به؛ فإنه مما أباحه الله وأحله، ولكن لا يشغل نفسه بأمور لا ينفعه الاشتغال بها، كالتعمق والتكلف والسؤال عن أمور ليس له أن يسأل عنها، ولا يمكنه أن يصل فيها إلى جواب، وإنما عليه أن يكف عن ذلك، وأن لا يقدم عليه.
هذه هي الجمل الأربع التي اشتمل عليها حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه.