ثم إن فيه دليلاً على أن الأعمال من أسباب دخول الجنة؛ لأنه قال: [(دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار)] فالأعمال هي أسباب في دخول الجنة، فقد قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
فبين أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وقد جاء في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ففي الآيات الكريمات التي ذكرت دلالة على أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وأن الإنسان يدخل بعمله الجنة، والحديث يدل على أن الإنسان لا يدخل بعمله الجنة، فكيف يجمع بين ما جاء في الآيات وما جاء في الحديث؟ والجواب هو أن يقال: إن الباء التي في الحديث غير الباء التي في الآيات؛ لأن الباء في الآيات للسببية، والله عز وجل جعل الأعمال سبباً في دخول الجنة، والباء التي في الحديث هي باء المعاوضة، فقوله: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) أي: بأن تكون الجنة عوضاً عن عمله، فيستحق الجنة بمجرد عمله دون أن يكون وراء ذلك فضل الله ورحمته، فهذا لا يكون، بل الفضل لله عز وجل في دخول الجنة.
ومعلوم أن الإنسان عندما يعمل عملاً عند غيره في هذه الحياة الدنيا فإنه يستحق الأجرة في مقابل عمله عوضاً، وليس للذي يدفع العوض منة وفضل على الأجير الذي أعطي أجرته؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، فهذا عَمِل وهذا أعطى في مقابل العمل.
أما دخول الجنة فالأعمال -وإن كانت سبباً في دخولها- إلا أن ذلك بفضل الله عز وجل، ولا يقال: إن القضية هي عمل وجد فكانت الجنة عوضاً عنه! بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي تفضل بالتوفيق للعمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة، وتفضل بالجزاء والثواب الذي هو الجنة، فرجع الأمر إلى فضل الله عز وجل في تحصيل السبب ثم حصول المسبب.
وعلى هذا تكون الآيات والحديث لا اختلاف بينها، وإنما هي متفقة، بحيث تحمل الباء في الآيات على السببية، وأن الله تعالى جعل الأعمال أسباباً في دخول الجنة، والباء التي نُفي فيها دخول الإنسان بعمله الجنة إنما هي باء المعاوضة، فدخول المرء الجنة ليس معاوضة له على عمله، بل الأعمال سبب في دخول الجنة، وليست القضية قضية معاوضة كما هو مشاهد ومعاين في الذين يعملون أعمالاً في الدنيا ويحصلون على أجورهم من المستأجرين، فإن تلك الأجور ليس فيها فضل ولا منة، وإنما فيها معاوضة، فالأعمال -كما سبق- وإن كانت سبباً في دخول الجنة إلا أن الله تعالى هو الذي تفضل بها، فتفضل بالسبب وتفضل بالمسبب.