وأما تخريج الحديث فقد خرجه جماعة كثيرون، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بل إن المعلق على جامع العلوم والحكم -وهو الشيخ شعيب الأرناءوط - ذكر تخريجه عن تسعة عشر إماماً، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة، وفي مقدمة الذين خرجوه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
والإمام النووي رحمه الله لما ذكر الحديث عازياًَ إليهما ذكر ذلك في أول الأمر فقال: (رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي)، ونسبته إلى الجعفي نسبة ولاء، ونسبة الولاء تكون أحياناً بالعتق، وتكون -أيضاً- بسبب الإسلام، ونسبة البخاري إلى الجعفيين نسبة ولاء بسبب الإسلام؛ لأن أحد أجداده دخل في الإسلام على يد رجل من الجعفيين، ولهذا يقولون في ترجمته: الجفعي مولاهم.
وأما مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فهو قشيري، وهو منهم نسبة أصل وليست نسبة ولاء، ولهذا يقولون عنه: القشيري من أنفسهم، فإذا كان الشخص ينسب نسبة ولاء قالوا: مولاهم.
وإذا كان فيهم أصلاً أتوا بكلمة (من أنفسهم) أي أنه ينتسب إليهم نسبة أصل، وليست نسبة ولاء، فـ مسلم بن الحجاج من بني قشير، وأما البخاري فنسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء، وليست نسبة أصل.
وهذا الحديث من غرائب (صحيح البخاري)، فقد جاء من طريق واحدة، فهو فرد مطلق، فرواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة بن وقاص الليثي إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون والراوون له عن يحيى بن سعيد حتى قيل: إن الذين رووه عنه يبلغون السبعين وقيل: إنهم يبلغون المائتين.
وقيل: أكثر من ذلك.
وهو غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يحيى بن سعيد.
ومثله الحديث الذي ختم به البخاري (صحيحه)، وهو حديث أبي هريرة (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فإنه -أيضاً- غريب، فلم يروه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أبو هريرة، ولم يروه عن أبي هريرة إلا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ولم يروه عن أبي زرعة إلا عمارة بن القعقاع، ولم يروه عن عمارة بن القعقاع إلا محمد بن فضيل بن غزوان، ثم انتشر بعد ذلك وكثر الآخذون والراوون له عن محمد بن فضيل بن غزوان، ففاتحة صحيح البخاري وخاتمته حديثان من غرائب الصحيح، فلم يأتيا إلا من طريق واحدة، وقد قال الترمذي عندما خرج الحديث الأخير في جامعه -وهو: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن) - قال: حديث حسن غريب صحيح.
ويعني بقوله: (غريب) أنه جاء من طريق واحدة.
وقد افتتح البخاري -رحمه الله- صحيحه بحديث عمر السابق، وكذلك الإمام النووي رحمه الله بدأ به الأربعين إشارة إلى تصحيح النية، وأن الإنسان إذا عمل عملاً فإنه يستحضر الإخلاص، ويستحضر حسن القصد، وأن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وابتغاء مرضاته سبحانه.
فقد بدأ الأربعين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث عمر في قصة جبريل، فبدأ بأول حديث في البخاري، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم، فحديث عمر الذي في قصة جبريل هو أول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، وأول حديث في صحيح البخاري هو حديث (إنما الأعمال بالنيات).
وقد سبق المؤلف إلى هذا الصنيع الإمام البغوي في كتابيه (شرح السنة) و (مصابيح السنة)، فإنه بدأ كلا الكتابين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل في تعليم الدين.
وكذلك -أيضاً- بدأ المؤلف كتابه (المجموع شرح المهذب) بهذا الحديث؛ لأنه بعدما انتهى من المقدمة عقد فصلاً في إخلاص النية وحسن القصد، وأن يكون ذلك في الأمور الواضحة والجلية، ثم ذكر ثلاث آيات من كتاب الله، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب (إنما الأعمال بالنيات).
وقد فعل ذلك -أيضاً- بعض المؤلفين فبدءوا بما بدأ البخاري به صحيحه، ومنهم: السيوطي، فقد بدأ كتابه (الجامع الصغير) بهذا الحديث، وكذلك: عبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، فإنه بدأ بهذا الحديث، وكل هذا إشارة منهم إلى هذا الغرض النبيل الذي هو حسن القصد، والبدء بشيء يذكر الإنسان وهو يعمل عملاً ما بضرورة الإخلاص وحسن النية، وأن يريد الإنسان بعمله ذلك وجه الله عز وجل والتقرب إليه سبحانه وتعالى.