قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام؛ أأدخل الجنة؟ قال: نعم)، رواه مسلم].
هذا الحديث أيضاً فيه ما في الذي قبله من حرص الصحابة على معرفة الحق والهدى وملازمته، وحرصهم على معرفة ما يوصل إلى الجنة وما يبلغ أهل الجنة إلى الجنة.
وهو يدل على أن الجنة مقصودة، وأن الإنسان يعمل الأعمال الصالحة ليحصل على رضا الله عز وجل وليسكنه جنته، وليس كما يقول بعض الصوفية: إنهم لا يعبدون الله رغبة في الجنة ولا خوفاً من النار، وإنما يعبدونه شوقاً إليه! فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يحرصون على السؤال عن الأعمال التي تبلغهم الجنة، وهذا الحديث من هذا القبيل؛ لأنه سأل: هل فعله لهذه الأفعال وهذه الأمور يؤدي به إلى الجنة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم).
أي: أن هذا يبلغه الجنة، والله تعالى قد أخبر عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85].
والحديث يدل أيضاً على أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وأن الإنسان يعبد الله عز وجل لتحصيل رضاه وللبعد عن سخطه ولأن يدخله الجنة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال للجنة (أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها).
وجاء في صحيح مسلم في بعض الروايات عن جابر بيان السائل، وأنه النعمان بن قوقل رضي الله عنه، وقد أورد المصنف رحمه الله هذا الحديث من تلك الروايات التي في صحيح مسلم، ففي هذه الرواية أبهم السائل، وفي الرواية الأخرى بين السائل وأنه النعمان بن قوقل رضي الله عنه.
وقوله: (أرأيت)، أي: أخبرني، (إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام.
أأدخل الجنة؟ قال: نعم).
وهذا يدلنا على عظم شأن الصلوات الخمس، وأنها أهم الأعمال وأعظم الأعمال بعد الشهادتين.
ومعنى قوله (وأحللت الحلال) أي: اعتقدت حله، وفعلت ما أمكنني منه.
(وحرمت الحرام) أي: تركته معتقداً حرمته.
ثم إنه لم يذكر في الحديث غير الصلاة والصيام، فلم يذكر الزكاة ولم يذكر الحج، ويحتمل أن يكون الحج والزكاة داخلين تحت قوله: (وحرمت الحرام)؛ لأن كون الإنسان لا يؤدي الحج ولا يؤدي الزكاة وهو من أهل القدرة على ذلك؛ فإنه يكون قد فعل حراماً؛ لأن الحرام هو ترك المأمور وفعل المحظور، فيكون عدم ذكر الزكاة والحج لدخولهما تحت هذه الجملة العامة.
ويحتمل أن يقال: يمكن أن يكون الحج لم يفرض بعد، وإن السائل سأل قبل فرض الحج، وكذلك أيضاً بالنسبة للزكاة يمكن أن يكون فقيراً ليس عنده مال، ولهذا لم يسأل عن الزكاة؛ لأنه ليس عنده مال يُزكَّى، وإنما سأل عن الشيء الذي يمكنه أن يأتي به، والذي هو قادر على الإتيان به وهو من أهله، وهو كونه يصلي الصلوات المكتوبات ويصوم شهر رمضان.
وبعد أن أتم سؤاله قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، والجواب بقوله: (نعم) يرجع إلى ما تقدم، فيكون السؤال كأنه معاد في الجواب، ومعناه: نعم إذا فعلت كذا وكذا دخلت الجنة، فلم يأت ذكر السؤال مرة أخرى، وهو مطلوب؛ وذلك لأن السؤال مبين: إذا فعلت كذا وكذا أأدخل الجنة؟
و صلى الله عليه وسلم نعم، إذا فعلت كذا وكذا تدخل الجنة، فلم يذكره مرة أخرى اكتفاءً بإيراده في السؤال، واستغناء عن إعادته بذلك، لأنه في معنى المعاد.
ومعنى قوله: (أحللت الحلال) أي: اعتقدت ما أحله الله حلالاً، وفعلت ما أمكنني فعله مما هو حلال مباح، فيكون ذلك بأن يأتي بما هو واجب، وبما هو مستحب، وبما هو مباح على حسب قدرته وطاقته، وأما تحريم الحرام فبأن يجتنبه ويبتعد عنه معتقداً حرمته.
وفي هذا أيضاً: أن الإنسان يكون متبعاً وموافقاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في إحلال الحلال وتحريم الحرام، فيأتي ما هو سائغ له مما أحله الله، ويبتعد عما حرم الله عليه مما جاء منعه وتحريمه، فيدخل في ذلك الابتعاد عن كل محرم مع اعتقاد أنه محرم.
وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهو ثاني حديث من أحاديث خمسة متوالية انفرد بإخراجها مسلم ولم يروها البخاري، وأولها الحديث الذي قبله وهو حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
والله تعالى أعلم.