قال ابن رجب رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة، وفي بعض الروايات قال: (لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا) خرجها عبيد بن زنجويه وغيره.
وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) في معناه قولان: أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعددة، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس ثعلب».
«والطريق الثاني: أنه أمر ومعناه الخبر، والمعنى: أن من لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر».
فيكون من قبيل الأمر الذي هو بمعنى الخبر، والأمر يأتي بمعنى الخبر كما أن الخبر يأتي بمعنى الأمر، وهذا من الأمر المراد به الخبر، ومثال الخبر المراد به الأمر قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] يعني: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.
قال: "وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول.
واعلم أن الحياء نوعان: أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقى).
وقال الجراح بن عبدالله الحكمي وكان فارس أهل الشام: (تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع)، وعن بعضهم قال: (رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة).
والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمان له.
والقول الثاني في معنى قوله (إذا لم تستح فأصنع ما شئت): أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحى من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت، وهذا قول جماعة من الأئمة منهم: أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد ".