وهذا الذي جاء هو جبريل، وجبريل من الملائكة، والملائكة خلقوا من نور، كما جاء في حديث عائشة: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من تراب، ومن طين، ومن صلصال كالفخار، كما جاء وصف ذلك في القرآن.
وقد خلق الله عز وجل الملائكة ذوي أجنحة، كما قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وقد ثبت في السنة أن جبريل له ستمائة جناح.
وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في السماء لما عرج به عند سدرة المنتهى، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق من كبر حجمه وله ستمائة جناح، فهذا الخلق الذي هو بهذا الحجم الكبير يجعله الله تعالى يتحول ويصغر إلى أن يكون بصورة إنسان، فالملائكة تتشكل على خلق الإنسان، كما أن الجن -أيضاً- يتشكلون على خلق الإنسان، وعلى خلق الحيوان، ولذا جاء في الحديث النهي عن قتل عوامر البيوت من الحيات قبل إيذانها، فلابد من تحذيرها؛ لأنها قد تكون من الجن.
فالجن قد تشكل على صورة الإنسان، كما في قصة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع ذلك الشيطان الذي كان يحثو من الطعام، ثم علمه قراءة آية الكرسي، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب).
الملائكة يأتون على صورة البشر، كما في هذا الحديث، وكما جاء جبريل على صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان رجلاً من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه، وجاء ضيوف إبراهيم إلى إبراهيم وإلى لوط على صورة بشر، وقصتهم معروفة في القرآن، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، فهم ملائكة جاءوا على صورة بشر، وجبريل جاء إلى مريم بصورة بشر كما في سورة مريم، فنزول جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحوله من خلق إلى خلق، كل ذلك يدل على عظمة الله تعالى، والله على كل شيء قدير، ولا يقال: إن هذا خلق آخر.
بل هو جبريل عليه السلام، وإنما تحول من كونه يسد الأفق إلى رجل عليه لحية شديدة السواد، ولباسه أبيض شديد البياض، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده الجواب، وقصده من السؤال إسماع الناس.
وهذا يدلنا على أن الإنسان له أن يسأل وإن كان يعلم الجواب، وذلك من أجل أن يسمع الناس الجواب، وليس بلازم أن يكون السؤال عن جهل بالجواب، بل يمكن للعالم أن يسأل عالماً، أو أن يسأل سائل عالماً من أجل أن يسمع الناس الجواب، فيكون بذلك معلماً للخير، فهذا جبريل عليه السلام لم يكن مسترشداً، ولم يأتِ متعلماً، وإنما جاء ليعلم الصحابة بجواب النبي صلى الله عليه وسلم عن أسئلته التي يسأل عنها، فنسب إليه التعليم؛ لأنه عالم بالجواب، ولأنه تسبب في السؤال فظهر الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على سؤاله، فنسب إليه التعليم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال جبريل عن الإسلام هو الذي اشتمل عليه الحديث الثالث الذي سيأتي بعد هذا، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، فهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل هو نفسه البيان الذي جاء في الحديث الذي حدث به عبد الله بن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام في بيان الأسس التي بني عليها دين الإسلام، وسنرجئ الكلام على ما يتعلق ببيان هذه الأركان إلى شرح الحديث الثالث، وهو حديث ابن عمر.
قوله: (فقال له: صدقت) أي: لما أعطاه الجواب قال: (صدقت)، وهذا -أيضاً- يدعو إلى الاستغراب، ويضاف هذا الاستغراب إلى ما تقدم من كونه شديد بياض الثياب، وشديد سواد الشعر، ولا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منهم أحد، والمعروف من السائل الذي لا يعلم أنه لا يقول: صدقت.
وإنما يقول: (صدقت) من كان عنده علم بالجواب، وأما الإنسان الذي ليس عنده علم بالجواب فإنه إذا أفتي يسكت، أو يدعو لمن أجابه وأفتاه، فيقول: جزاك الله خيراً، وأحسن الله إليك.
أما أن يقول: (صدقت)، فهذا الجواب جواب العارف والعالم بالسؤال وبالجواب، وكان هذا محل استغراب من الصحابة، ولهذا قال: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) يعني أن السائل من شأنه أن يكون غير عالم بالجواب فيفرح بالجواب، ويدعو لمن أجابه، أما أن يقول: (صدقت)، فهذا يدل على أن عنده علماً بالجواب.