فالحاصل أن كثيراً من البدع وكثيراً من الشرور إنما خرجت من تلك الجهة، ولا تزال -على مختلف العصور- كثير من الشرور تأتي من تلك الجهة، ولا يعني ذلك أنه ليس فيها إلا الشر، بل هناك الخير الكثير، فإن الكثير من العلماء من المحدثين والفقهاء هم من تلك الجهة، وأكثرهم من العجم، فأصحاب الكتب الستة: - البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه - كلهم من تلك الجهة، والإمام أحمد وأبو حنيفة، وسفيان الثوري وكثير من الفقهاء والمحدثين من تلك الجهة، وقد بين بعض أهل العلم -كـ الخطابي وابن حجر - المقصود بنجد في الحديث السابق، وأنه ليس المقصود به -كما يقوله بعض الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- نجد اليمامة؛ فإن اليمامة لم تكن معروفة، وليس لها ذكر ولا شأن، وإنما يراد بنجد الأماكن المرتفعة المختلفة، وجاء في الحديث: (وقت لأهل نجد قرن المنازل)، وليس المقصود به اليمامة، بل المقصود به كل الجهات المرتفعة التي تكون من تلك الجهة من الطائف وما وراء الطائف.
فالحاصل أن هذه البدعة أول ما ظهرت في العراق في البصرة، وأول من أظهرها معبد الجهني، كما جاء في إسناد هذا الحديث الذي عند الإمام مسلم، وهذا يدلنا على ظهور كثير من الشرور من تلك البلاد، وإن كان قد حصل فيها كثير من الخير، وخرج منها كثير من أهل العلم في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك من سائر العلوم، فلما خرج معبد الجهني - وهو أول من قال بالقدر- خرج يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، قال يحيى فقلنا: (لو وفق لنا أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أن التابعين كانوا يستغلون فرصة الحج والعمرة لتحصيل العلم والاشتغال بالعلم، والرجوع إلى العلماء، وأنهم يجمعون بين أداء النسك وأداء العبادة والرجوع إلى أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الحجاج والمعتمرين والزائرين عندما يأتون إلى مكة والمدينة عليهم أن يحرصوا على التفقه في الدين، وعلى معرفة الأحكام الشرعية؛ لأن هذا هو شأن سلف هذه الأمة كما في إسناد هذا الحديث، ويدل لذلك لقياهم بـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وفرحهم بذلك، واكتنافهم إياه، فجاء كل واحد منهما من جهة، حتى يستوعب كل واحد منهما ما يصدر منه، ويسمعان ما يقول، فإذا كان هذا من جهة وهذا من جهة، وتكلم وحدث فإن هذا يسمعه كما يسمعه الآخر، ولم يأت كلاهما في جهة واحدة ليكون هذا وراء هذا، بل صار هذا من جهة وهذا من جهة، ومرادهما من ذلك أن يقربا من هذا الصحابي الجليل، وأن يسمعا حديثه وفتواه في ذلك الأمر الذي سألاه عنه.