ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أسباب هلاك الأمم السابقة: كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، والمراد بكثرة المسائل: المسائل التي تكون من غير حاجة، والتي تكون تعنتاً، أو يكون ما فيها قد يترتب عليه في زمن النبوة أن يحرم شيئاً بسبب تلك المسألة، أو يوجب شيئاً يكون فيه مشقة كبيرة.
وحديث أبي هريرة هذا جاء ذكر سبب له في صحيح مسلم وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، فغضب وقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
فهذا الحديث في صحيح مسلم يبين سبب الحديث، وأن الأسئلة التي تكون من هذا القبيل هي المنهي عنها وهي الممنوع منها، وهي التي كانت من أسباب هلاك الأمم السابقة، وكذلك جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، يعني: الأسئلة التي يترتب عليها مضرة في زمن النبوة؛ لأن الزمن زمن تشريع، فقد يوجب ما فيه مشقة، وقد يحرم ما فيه مصلحة ومنفعة وفائدة؛ فلهذا ذمت الأسئلة التي فيها تكلف وتشديد، فالأسئلة التي يترتب عليها تشديد على هذه الأمة مذمومة، والرسول صلى الله عليه وسلم حرمها، وبين أن تلك من أسباب هلاك الأمم السابقة.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام؟)، يعني: هل أحج كل عام؟ ولو فرض الحج في كل عام لما استطاع الناس أن يحجوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف سيستطيعون أن يحجوا؟ وكيف سيسعهم المكان إذا كان واجباً عليهم جميعاً؟ فهذا فيه صعوبة شديدة، ومشقة عظيمة، ولا يستطاع؛ ولهذا قال: (فأتوا منه ما استطعتم)، ونهى عليه الصلاة والسلام عن مثل هذه الأسئلة، وغضب لذلك، وأخبر أن من أسباب هلاك الأمم السابقة ما كان مثل ذلك.
وقد جاء في الشريعة أمثلة من أسئلة الأمم السابقة والأشياء التي يسألون عنها وفيها تكلف وتعسف، منها ما قاله عز وجل في القرآن عن أهل الكتاب: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153].
فهذا من الأسئلة التي فيها تعنت، وتكلف، ومن الإتيان بأمور لا يصلح أن يسأل عنها أو يتشاغل بها.
وكذلك قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فكان يجزيهم أن يأخذوا أي بقرة فيذبحوها، ثم يضربوا بلحمها على القتيل الذي قتل، ولكنهم سألوا أسئلة متعددة، وتعنتوا وشددوا فشدد الله عليهم، وكان يكفيهم أي بقرة، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، أي بقرة، لكنهم سألوا عن سنها ولونها وصفاتها، وبعد ذلك صاروا إلى نوع معين بعد تلك الأسئلة المتكلفة، فشددوا فشدد الله عليهم.
فهذا من جملة ما أثر وما جاء عن الأمم السابقة من التكلف، ومن الأسئلة التي كانت من أسباب هلاكهم، وحذرت هذه الأمة أن تفعل مثلما فعلوا.
ثم إن المسائل منها ما يكون الإنسان بحاجة إليه، كمعرفة الأمور التي لابد منها، كمعرفة كيف يتوضأ، وكيف يصلي، وكيف يزكي إذا كان عنده مال، وكيف يصوم، حيث إن هذه الأمور مطلوب أن يسأل عنها.
وأما إذا سئل عن أسئلة فيها تكلف، أو أمور مغيبة، مثل
Q متى تقوم الساعة؟ وعن عمر الدنيا: كم مقدار عمرها؟ وعن الأشياء التي هي أمور مغيبة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو السؤال عن كيفيات أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها، مثل الذي سأل مالكاً عن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فمثل هذه الأسئلة لا يجوز السؤال عنها، بل على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه في أمور دينه، ثم عن أمور يحتاج الإنسان إليها في أعماله اليومية وباستمرار، أما أن يسأل عن أمور خيالية أو نادرة الوقوع، أو لا يتصور وقوعها، فإن ذلك شغل وقت في غير طائل، ومن التكلف غير المحمود.