قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، يعني: أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادتين، وهؤلاء الذين يشهدون منهم من تكون شهادته في الظاهر والباطن على حد سواء، فيكون صادقاً في إيمانه وإسلامه، ومنهم من ليس كذلك، لكن يقبل منه الظاهر، والسرائر لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن شهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله كففنا عن قتاله، مع أنه قد يكون هذا القول صادقاً وقد تواطأ لسانه مع قلبه على ذلك، وقد يكون قال ذلك خوفاً من السيف، فأظهر الإسلام وهو مبطن للكفر كما هو شأن المنافقين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)، يعني: أن من أتى بهذه الأمور في الظاهر فإنه يكتفى منه بهذا، وأما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقاً وكان ظاهره متفقاً مع باطنه فذلك ينفعه عند الله عز وجل؛ لأن الله سيحاسبه وسيحصل له الخير، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7].
وإذا كان ظاهره يخالف باطنه، بمعنى أنه أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وقال ذلك نفاقاً وخوفاً من السيف، فإن هذا كذلك يكف عنه ويعصم دمه وماله بذلك، ولكنه من أهل الدرك الأسفل من النار.
ثم إن في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله) دليلاً على أن أول واجب على المكلف هو الشهادتان، ولا يطلب منه أمور أخرى قبلها، خلافاً لبعض المتكلمين القائلين إن أول واجب على المكلف النظر، أي أن ينظر في الأدلة وينظر في الكون، ثم بعد ذلك يشهد أن لا إله إلا الله.
فنحن نقول: ما دام أنه يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه عليه أن يأتي بها ابتداء، ولا يحتاج الأمر إلى أمور تفعل قبل الشهادتين، وقد يؤخر الشهادتين ثم يموت قبل أن يشهد في المدة التي كان مطلوب منه أن ينظر، مثل ما حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم زار غلاماً من اليهود في مرض موته وعرض عليه الإسلام وكان أبوه جالساً عنده، فنظر إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم مات، وقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
فإذاً أول واجب على المكلف الشهادتان، وليس أول واجب أن ينظر ويفكر ويتأمل، فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، خرج من الكفر ودخل في الإسلام، وبذلك يخرج من الظلمات إلى النور، ولا يجعل بينه وبين الخروج من الظلمات إلى النور مسافة.