عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) رواه البخاري ومسلم.
قوله: (شهادة) يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة.
وهذا على الرفع، وعلى الكسر تكون بدلاً من قوله: (خمس).
وهذا الحديث فيه عدة مسائل: أولاً: قوله: (بني الإسلام على خمس) فيه بيان عظم شأن هذه الخمس، وأن الإسلام مبني عليها، وهو تشبيه معنوي بالبناء الحسي، فكما أن البنيان الحسي لا يقوم إلا على أعمدته فكذلك الإسلام إنما يقوم على هذه الخمس، واقتصر على هذه الخمس لكونها الأساس لغيرها، وما سواها فإنه يكون تابعاً لها.
ثانياً: أورد النووي هذا الحديث بعد حديث جبريل -وهو مشتمل على هذه الخمس- لما اشتمل عليه هذا الحديث من بيان أهمية هذه الخمس، وأنها الأساس الذي بني عليه الإسلام، ففيه معنىً زائد على ما جاء في حديث جبريل.
ثالثاً: هذه الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام أولها الشهادتان، وهما أس الأسس، وبقية الأركان تابعة لها، فلا تنفع هذه الأركان وغيرها من الأعمال إذا لم تكن مبنية على هاتين الشهادتين، وهما متلازمتان، فلابد من شهادة أن محمداً رسول الله مع شهادة أن لا إله إلا الله.
ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله أن تكون عبادة الله وفقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان أصلان لابد منهما في قبول أي عمل يعمله الإنسان.
فلابد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولابد من تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: قال ابن حجر في الفتح: فإن قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام! أجيب بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول بما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات.
وقال الإسماعيلي ما محصله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول: شهدت برسالة محمد وتريد جميع ما ذكر.
والله أعلم.
خامساً: أهم أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها عمود الإسلام، كما في وصيته صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وأخبر أنها آخر ما يفقد من الدين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وأن بها يحصل التمييز بين المسلم والكافر.
وإقامتها تكون على حالتين: إحداهما: واجبة، وهي الإتيان بها على وجه مجزٍ أدي فيه الواجب.
الثانية: مستحبة، وهي تكميلها وتتميمها بالإتيان بكل ما هو مستحب فيها.
سادساً: الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
وهي عبادة مالية نفعها متعدٍ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضر الغني؛ لأنها شيء يسير من مال كثير.
سابعاً: صوم رمضان عبادة بدنية، وهي سر بين العبد وبين ربه؛ لأن الصوم لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن من الناس من يكون في شهر رمضان مفطراً وغيره يظن أنه صائم، وقد يكون الإنسان صائماً في نفل وغيره يظن أنه مفطر؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح أن الإنسان يجازى على عمله الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: (إلا الصوم فإنه له وأنا أجزي به)، أي: بغير حساب.
والأعمال كلها لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمسلمينَ} [الأنعام:162 - 163].
وإنما خص الصوم في هذا الحديث بأنه لله لما فيه من خفاء هذه العبادة، وأنه لا يطلع عليها إلا الله.
ثامناً: حج بيت الله الحرام عبادة مالية بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرة واحدة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضلها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
تاسعاً: هذا الحديث بهذا اللفظ جاء فيه تقديم الحج على الصوم، وهو بهذا اللفظ أورده البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، وبنى عليه ترتيب كتابه الجامع الصحيح، فقدم كتاب الحج فيه على كتاب الصيام، وقد ورد الحديث في صحيح مسلم بتقديم الصيام على الحج وتقديم الحج على الصيام.
وفي الطريق الأولى تصريح ابن عمر بأن الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديم الصوم على الحج، وعلى هذا يكون تقديم الحج على الصوم في بعض الروايات من قبيل تصرف بعض الرواة، فرواه بالمعنى، وسياقه في صحيح مسلم: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج.
فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
عاشراً: هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتبة حسب أهميتها، وبدئ فيها بالشهادتين اللتين هما أساس لكل عمل يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالصلاة التي تكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حول؛ لأن نفعها متعدٍ، ثم الصيام الذي يجب شهراً في السنة، وهو عبادة بدنية نفعها غير متعدٍ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلا مرة واحدة.
الحادي عشر: ورد في صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما حدث بهذا الحديث عندما سأله رجل فقال له: ألا تغزو؟ فساق الحديث، وفيه الإشارة إلى أن الجهاد ليس من أركان الإسلام، وذلك لأن هذه الخمس لازمة باستمرار لكل مكلف، بخلاف الجهاد، فإنه فرض كفاية، ولا يكون في كل وقت.
الثاني عشر: مما يستفاد من الحديث: أولاً: بيان أهمية هذه الخمس؛ لكون الإسلام بني عليها.
ثانياً: تشبيه الأمور المعنوية بالحسية لتقريرها في الأذهان.
ثالثاً: البدء بالأهم فالأهم.
رابعاً: أن الشهادتين أساس في ذاتيهما، وهما أساس لغيرهما، فلا يقبل عمل إلا إذا بني عليهما.
خامساً: تقديم الصلاة على غيرها من الأعمال؛ لأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه.
سادساً: ذكر العدد أولاً ثم المعدود بعد ذلك مما يجعل السامع يستوعب ما يلقى عليه، ويعي ما يلقى عليه، وهو منهج سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم في إيضاحه وبيانه لأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
والله تعالى أعلم.