حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الأسئلة

وتقديم السؤال بهذه الطريقة فيه تمكين للسؤال في وعي وذهن المسئول، ففي ذلك لفت لنظره، بخلاف ما لو قيل: إن السائل هو فلان.

فإنه لا يكون له ذلك الوقع في نفس من وجّه إليه السؤال، فإذا جاء الجواب بعد ذلك فإنه يكون أوقع في نفسه، وأثبت في قلبه، وأمكن في استيعاب الشيء الذي يُخبَر به.

وهذا من الأساليب التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها مع أصحابه ليمكنهم من استيعاب ما يصدر منه، ومثل ما جاء في قصة معاذ بن جبل لما كان راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال له: (يا معاذ! فقال له معاذ: لبيك -يا رسول الله- وسعديك.

فقال: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: إن حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق الله على العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فمهد للجواب بهذه الأسئلة وهذا الخطاب حتى يكون عند معاذ الحرص والاهتمام تتلقي ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالنسبة لـ عمر رضي الله عنه هنا، فقد قال له: (أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليل على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم.

وأما في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم.

فيعطيهم الجواب، وأما بعد ذلك فليس لأي إنسان إذا سئل عن أي شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم.

فقد يسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم.

لأن الرسول صلى عليه وسلم لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم كل غيب، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، فلا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فأضاف إليه التعليم؛ لأنه متسبب فيه وإن لم يكن مباشراً للتعليم، فالذي باشر التعليم هو رسول صلى الله عليه وسلم، فصار المتسبب في حكم المباشر.

فسؤال الإنسان لا يكون دائماً عن الأشياء المجهولة فقط، بل قد يسأل عن الشيء يعلمه من أجل أن يسمع الناس جواب هذا السؤال، فهذا من الأمور المستحسنة، وليس هذا من الأمور التي لا تنبغي، بل هذا مما ينبغي؛ لأن فائدته أن يعلم غيره مثلما علم، ولهذا فقد أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم التعليم إلى جبريل -مع أنه إنما كان سائلاً- لكونه حصلت الفائدة للصحابة من جراء سؤاله.

ولقد كان سؤال جبريل وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمور كلية وقواعد عامة، وهذه هي أصول الدين، وأما تفاصيله وجزئياته فلا تنحصر، ولكن هذه هي الأمور الكلية والقواعد العامة، وذلك في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان، مثل تفسير الإسلام بأنه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وكذلك أيضاً تفسير الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإحسان وبيان معناه، وكذلك السؤال عن الساعة، وبيان أنه لا يعلمها إلا الله، فلتقطع الآمال عن التفكير فيها والبحث عن وقتها؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأماراتها وعلاماتها كثيرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من علاماتها.

وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام على حديث جبريل الطويل من رواية عمر بن الخطاب رضي الله، وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنتكلم على حديث: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) والكلام عليه داخل في الكلام على حديث جبريل السابق؛ لأن هذه الأمور الخمسة هي التي اشتمل عليها جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا أرجأنا الكلام عليها إلى الحديث الآتي؛ لأنه مشتمل عليها، ولم نجعل الكلام عليها ضمن هذا الحديث، فيعتبر الكلام على الحديث الآتي ضمن الكلام على حديث جبريل، والله تعالى أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015