قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع].
أي: الكلام في اللغة له قيود وشروط، حتى إذا أتتك الكلمات مضمومة مع بعضها تقول هذا كلام، فالكلام له معادلة رياضية، وهي لفظ + مركب + مفيد + بالوضع.
فشروط الكلام: أن يكون لفظاً مركباً مفيداً بالوضع، أي وضع اللغة العربية، فالشرط الأول أن يكون لفظاً: فاللفظ لا بد له من صوت يسمع وحرف، فخرج بذلك الإشارة والكتابة، فإشارة السيد إلى عبده، أو المدير إلى الفراش، أو إلى عامله أو إلى ساعيه، فإنها معروفة ومفهومة عند الناس، يستفاد منها أمره بالمجيء أو بالجلوس، لكنها ليست بكلام، لأنها ليست بلفظ.
الكتابة كأن يكتب رجل في ورقة: أريد طعاماً أو أريد من الماء، ويبعثها إلى عبده أو ساعيه، فإذا قرأها العبد أو الساعي فإنهما يفهمان من الكتابة فهماً جيداً، وهو أن سيدهما يريد منهما طعاماً أو شراباً، لكن الكتابة لا تدخل أيضًا في الكلام؛ لأنها ليست بلفظ.
والشرط الثاني: أن يكون مركباً، والتركيب: أن يتركب الكلام من كلمتين فأكثر، كأن تقول مثلاً: محمد كريم، زيد أسد، عمر شجاع، محمد رسول الله، الإسلام ديننا، فهذه الجمل مركبة من كلمتين فأكثر.
والتركيب له حالتان: إظهار وإضمار، فالإظهار مثل: محمد رسول الله، زيد كريم، عمر شجاع، محمد أسد، فالكلمة الثانية ظهرت.
والإضمار هو الذي لا تظهر فيه الكلمة الثانية، مثلاً: ننجح، فهذه كلمة واحدة فيها إضمار، والتقدير: نحن ننجح.
وكذلك يأتي اللاعب الذي يرى فارس الميدان ومعه الكرة، فيقول له: العب، والتقدير: العب أنت.
فالكلام إن كان من كلمتين أو أكثر فهو مركب، مثل: محمد رسول الله، زيد شجاع، أحمد أسد، فالكلمة الأولى انضمت إلى الثانية، فأصبح تركيباً، أما الكلمات محمد وأحمد، وزيد، وعمر، والكرة، واللبن، والتفاح، فهذا ليس بكلام لأن الكلمات ليست مركبة.
والتركيب إما ظاهر وإما مضمر، أي: مستتر، والمستتر يوجد فيه الفعل ويضمر الفاعل، مثل: آكل، والتقدير آكل أنا، فأشرب اللبن، والتقدير: أشرب أنا اللبن.
والشرط الثالث: الإفادة: وهو الذي تستفيد منه جملة مفيدة، فلا تتطلع لشيء ثان، كأن يتكلم معك بجملة مكونة من مبتدأ وخبر، نحو: محمد كريم، أما لو قال: محمد ابن عمك، وسكت، فهذا ليس مفيداً؛ لأن السامع ينتظر الخبر.
ومعنى أن يفيد: أن يحسن السكوت عنده، فلا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر، والإفادة تكون بشيء يعرف ويحسن السكوت عليه، كقول الله تعالى مثلاً: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة:2] فنفهم من هذه الجمل أن محمداً رسول الله يتلو الصحف التي أوحيت إليه من الله جل في علاه، ومثل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فنفهم من هذه الجملة بأن الله الواحد الذي له صفات الجمال والكمال ونعوت الجلال لا يساميه أحد، ولا يمكن أن يكون أحد كفؤاً لله جل في علاه، فالكلام المفيد: هو الذي إذا وقفت عنده لا يطلب السامع منك أن تزيده كلاماً، فيحسن السكوت عنده بالوضع.
والوضع له معنيان: المعنى الأول: القصد، وهو أن القائل يقصد هذا الكلام، كأن يكون معه العصا؛ فقال: سأضرب زيداً أو طالب العلم الكسول، أو الفاسق، أو العاصي، أي: فهو يقصد ذلك، فخرج من هذا القصد كلام السكران والمجنون والطفل.
فقصد الكلام هو فهمه وتعقله.
والمعنى الثاني: الوضع العربي أي: عند أهل اللغة الفصحاء البلغاء الأعراب، فإذا قيل لك يحرم عليك أن تقول: ضربت محمد، فهذا حرام لغة أي: لا يجوز في عرف أهل اللغة.
إذاً الكلام هو: اللفظ المركب المفيد بالوضع، والوضع له معنيان: المعنى الأول: القصد، فخرج منه كلام المجنون فلا يعتبر كلامه.
وكذلك السكران أو من ذهب عقله.
والمعنى الثاني: وضع أهل اللغة الفصحاء البلغاء الذين كانت لغتهم سليقة، فيؤخذ الكلام العربي منهم، أما إذا لم يكن في لغتهم ولا معروفاً عندهم فلا يؤخذ منهم، وأشهر ما يقال في ذلك قول القائل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فالأشاعرة قالوا: الاستواء بمعنى الاستيلاء، فإن اللغة الأصيلة تدل على ذلك لقول الشاعر في البيت السابق.
فرد عليهم العلماء بأن هذا البيت ليس بعربي أصيل، فلا تعرفه العرب إنما هو لنصراني غير معروف عند أهل اللغة الفصحاء البلغاء.