ولقد كان الصدر الأول من الأمة المحمدية أهل سليقة عربية، وأصحاب مَلَكة لسانية (فكان اللسان العربي عندهم صحيحاً مَحْروساً لا يتَداخَلُه الخلل، ولا يتطرَّق إِلَيْهِ الزلل، إِلى أن فُتِحَت الأمصار، وخالط العربُ غير جنسهم من الروم والفرس والحبش والنَّبط، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتح الله على المسلمين بلادهم، وأفاء عليهم أموالهم ورقابهم، فاختلطت الفرق، وامتزجت الألسن، وتداخلت اللغات، ونشأ بينهم الأولاد، فتعلّموا من اللسان العربي ما لابدّ لهم في الخطاب منه، وحفظوا من اللغة ما لا غنىً لهم في المجاورة عنه، وتركوا ما عداه لعدم الحاجة إِلَيْهِ وأهملوه لقلة الرغبة في الباحث عليه، فصار بعد كونه من أهم المعارف مطّرحاً مهجوراً، وبعد فرضيته اللازمة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، وعادت الأيام والحالة هذه على ما فيها من التماسك والثبات، واستمرت على سنَنٍ من الاستقامة والصلاح، إِلى أن انقرض عصر الصحابة والشأن قريب، والقائم بواجب هذا الأمر لقلته غريب، وجاء التابعون له بإحسان فسلكوا سبيلهم لكنهم قلّوا في الإتقان عدداً واقتفوا هديهم وإن كان مدّوا في البيان يداً، فما انقضى زمانُهم على إحسانهم إلاّ واللسان العربي قد استحال أعجميّاً أَوْ كاد، فلا ترى المستقِلّ به والمحافظ عليه إلا الآحاد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015