حراسة عمر رضي الله عنه لرعيته

من اهتمامه برعيته أنه كان يحرسهم ليلاً مع أن الحراسة كانت للشرطة، وهي التي لها الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن عمر كان هو الذي يحرس رعيته رضي الله عنه وأرضاه، ويضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على الرعية، فكان يعس ليلاً، يدور ليحرس الرعية، وكان من ثمار هذا الحفظ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يسد الخلة عن الناس ويحفظ الأعراض.

فقد مر ليلاً ببيت فسمع امرأة تتكلم وتقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فاندهش من هذا البيت الذي يدعو للريبة من امرأة مسلمة تطلب كأساً من خمر أو تطلب رجلاً يسمى نصر بن حجاج، فلما أشرق الصبح قال: ائتوني بـ نصر بن حجاج، ففتشوا المدينة حتى أتوه بـ نصر بن حجاج، يقول الراوي: فرآه أصبح الناس وجهاً -أي: أجمل الشباب- وأحسنهم شعراً، فقال له -حفظاً على الأعراض-: احلق شعرك، فحلق شعره فوجده أجمل مما كان، فقال له: تعمم، فصار أجمل مما كان، فقال: ستفتتن النساء بمثل هذا الرجل، فبعدما وجد الجمال منه في كل حالة أمر بأن يرحل إلى البصرة حيث الجهاد؛ حتى لا يهتم بنفسه ولا تفتن به النساء، عمل هذا حفظاً على رعيته.

وأيضاً: مر ذات ليلة على امرأة فسمعها تقول بعدما أرخى الليل سدوله: تطاول هذا الليل واسود جانبه وليس إلى جنبي ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فرأى امرأة تشتاق إلى رجل وتقول: سيتحرك السرير لولا تقوى الله جل وعلا، فخشي على رعيته من الزنا، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن صاحب هذا البيت، فقالوا: هذا البيت لفلان، وسأل عن زوجته فبعث إليها، وقال لها: سمعت منكِ كذا وكذا، ما بالك تقولين هذا؟ فبينت له أن زوجها قد ابتعد عنها أشهراً عديدة ولم تستطع الصبر، فذهب إلى حفصة -وهنا أخذ الفقهاء قاعدة في بعد الرجل عن زوجته- فقال: يا ابنتي! ما المدة التي تحتمل فيها المرأة البعد عن زوجها؟ فطأطأت رأسها حياءً من أبيها، قال: عزمت عليكِ أن تقولي، فقالت: أربعة أشهر، فحددت أن الرجل لا يبتعد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ومع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن عمر أراد أن يحافظ على رعيته ويحافظ على دينهم، فكتب: لا يغزون أحد فوق أربعة أشهر، ولا تخرج سرية فوق أربعة أشهر، فعل كل هذا حفاظاً على الرعية.

وأيضاً: لما كان يعس ليلاً جاءت رفقة فنزلت بالمصلى، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: ما رأيك أن نبيت نحرسهم؟ قال: نعم، فذهب معه عبد الرحمن، فسمع عمر بن الخطاب بكاء طفل، فذهب إلى أمه قال: يا امرأة! أما تتقين الله في هذا الطفل أو هذا الصبي؟ وتركها وذهب، حتى إذا كان آخر الليل وهو ما زال يسمع البكاء فذهب إليها فقال: والله! إنكِ أم سوء، كيف لا تتقين الله في هذا الصبي؟ فقالت: يا رجل! إليك عني، إني أشغله عن الرضاع ولا ينشغل، قال: فلمَ لا ترضعينه؟ قالت: فطمته، قال: ولم تفطميه؟ فقالت: إن عمر لا يكتب الفرض -أي: لا يعطي عطاء بيت مال المسلمين- لكل مولود في الإسلام إلا إذا فطم، فـ عمر بن الخطاب حدد العطاء للذي يفطم، فكانت بعض النساء التي ترضع ابناً تفطمه قبل الحولين حتى تأخذ المال، فقال لها: لا تفطميه، ثم صلى بهم الصبح، وبعد أن صلى بكى بكاءً شديداً، ثم قال: ابعثوا في الأمصار: كل مولود فطم أو لم يفطم فله حصة كذا وكذا، ثم قال: يغفر الله لـ عمر كيف قتل أولاد المسلمين، أو كم قتل من أولاد المسلمين؟ فهذا من باب حفظه على رعيته وعدله معهم رضي الله عنه وأرضاه.

وكان أيضاً يعس ليلاً، ومن فوائد هذه الحراسة ليلاً أنه سمع امرأة تقول لابنتها: ضعي على اللبن الماء، فقالت: يا أماه! اتقي الله، أما علمتِ أن أمير المؤمنين قد حرج على ذلك أو حرم هذا؟ فتحريم الأمير إن كان لا يخالف الشرع يجب اتباعه، فقالت: قد حرم أمير المؤمنين ذلك، فقالت لها: أين أمير المؤمنين الآن؟ فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا! فأعجب عمر بذلك، وزوجها بابنه، فخرج من هذا النسل الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015