اهتم عمر بالعلم وقال: أهم العلوم التي يرتقي بها المرء التوحيد؛ إذ إن العقيدة السليمة هي التي يصل بها المرء إلى الله وإلى جناته دون أدنى حساب، فالتوحيد هو أهم العلوم التي لابد أن ينصب الاهتمام عليه؛ لأن التوحيد أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحافظ على توحيد الله، فقد بعث عمرو بن العاص إلى مصر ونظر إلى العقائد الخربة وحبال الشرك فقطعها، وسد الذرائع عن الشرك، وقد كانت تنتشر في مصر عقائد خربة جداً، هي العقائد الفرعونية التي مازال كثير من الناس يتغنى بها ويفتخر بها.
فـ عمر لما بعث عمرو بن العاص لفتح مصر وفتحها، جاء أهل مصر إلى عمرو بن العاص فقالوا له: عادتنا كل عام في شهر معين أنه بعدما تمر عشرة أيام من هذا الشهر نأتي ببنت فنزينها أحسن الزينة، ونلبسها أحسن الثياب بالحلي والذهب، ثم تلقى في النيل، حتى يجري النيل ولا يحدث الجفاف فيه، فبين عمرو بن العاص أن هذا من الشرك، وأن هذه عقائد خربة لابد أن تقطع، وقال: لا تفعلوا هذا، فلما سمعوا له وأطاعوا ابتلى الله صدقهم فحدث الجفاف، ولم يجر النيل، فبعث عمرو إلى عمر مستشكلاً، وقال: القصة كذا وكذا وكذا، فقام عمر فأثنى على عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه بين لهم العقيدة الصحيحة، ثم كتب بطاقة وكتب كتاباً على هذه البطاقة، وقال لـ عمرو بن العاص: إذا وصلت هذه البطاقة فألقها في النيل، ففتح البطاقة فوجد فيها التوحيد الخالص الذي يبين أن العبودية هي رأس الأمر، وجد فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وأما الذين يتغنون به ويقولون: مصر هبة النيل، فهذا شرك محض، وهذا من الألفاظ التي لابد أن تعدل في أفراد المسلمين، فمصر هي هبة الله جل وعلا، والنيل هبة الله، والذي يهبنا الحياة هو الله جل وعلا، والذي يهبنا الرزق هو الله جل وعلا النافع الضار.
فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحقق كامل التوحيد، فقال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، إن كنت تجري بأمرك فلا تجر ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الواحد القهار فنسأل الله أن يجريك.
هذا هو التأسيس الصحيح للعقيدة، فالنيل لا يملك شيئاً، ولا أحد يملك شيئاً، وأنا وأنت لا أحد منا يملك لأحد شيئاً، حتى كبيري في العمل لا يملك لي شيئاً، بل لا يملك لنفسه شيئاً، ولا أحد في هذه الدنيا يملك لأحد شيئاً، لا دول تتحكم في مقدرات الناس، ولا أشخاص ولا جماعات ولا طوائف، فالله جل وعلا هو النافع الضار، وهو المعز المذل، ولذلك قام عمر يؤكد أصول التوحيد التي إذا أثرت في القلوب انتهى الظلم، وارتقى المرء وارتفع عند ربه جل وعلا، وتحققت كل الأماني، فقال مخاطباً النيل: إن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأل الله جل وعلا أن يجريك، وما إن ألقيت هذه البطاقة إلا وأجرى الله النيل عشرة أذرع وكثر كثرة لم يعهدها مثلها؛ كرامة لتحقيق التوحيد من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهذه القصة مشهورة جداً، وما ذكرتها إلا لشهرتها، وفي إسنادها ابن لهيعة وهو مختلف في تجريحه وتوثيقه.
ومن جوانب حب عمر للتوحيد وسده ذرائع الشرك: أنه كان إذا طاف بالكعبة مضى إلى الحجر فقبله، ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر.
حتى يظهر للناس أن النافع الضار هو الله، وأن المعز المذل هو الله جل وعلا، فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك فقبلتك، فقعد قواعد عظيمة في التوحيد: أما الأولى فهي قاعدة مهمة في قلوب الناس: فإن النافع الضار هو الله جل وعلا، فابتهل لربك وتذلل إلى ربك ولا تعتقد إلا في ربك، لا تعتقد في البشر، فهم لا ينفعونك ولا يضرونك.
القاعدة الثانية: التسليم التام لأوامر الله جل وعلا، فإذا أمر الله بالسجود لبشر نسجد للبشر؛ لأن الله أمر به، كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم مع أن السجود لا يكون إلا لله، لكن كان السجود امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وإذا أمر الله جل وعلا بتقبيل الحجر فيقبل الحجر إرضاءً لله جل وعلا.
أيضاً من مظاهر حب الفاروق للتوحيد: أنه كان بعض التابعين يريدون التبرك بشجرة موقعها من أهم المواقع، وهذه الشجرة هي التي حدثت عندها بيعة الرضوان، وذلك لما أنبئ النبي صلى الله عليه وسلم بأن عثمان رضي الله عنه قد قتل، فبايعهم على الموت، وأنزل الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فكان كثير من التابعين وكثير ممن يعرفون فضل هذه الشجرة يذهبون فيصلون عند هذه الشجرة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقطع دابر الشرك؛ لأن هذا من باب التبرك الممنوع.
فالتوحيد مهم جداً، والله! ما ننتصر إلا بالتوحيد، ولا نرتقي إلا بالتوحيد، ولا ترفع عنا الغمة إلا بالتوحيد: لأن الله جل وعلا ما أنزل الكتب إلا للتوحيد، وما أرسل الرسل إلا للتوحيد، والله ما رفع علم الجهاد إلا للتوحيد.
واليهود لعنة الله عليهم جميعاً هم الذين وضعوا الشرك وأسسوه في الأمم، وقد كان المشركون يتبركون بشجرة، ويقولون: النصر من عندها، فقال بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بالجاهلية: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138])، فبين أن هذا من الشرك، فـ عمر كان يخشى من ذلك، وكان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرج على الصحابة، وقال: (الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) فقطع هذه الشجرة وقطع دابرها حتى لا يتبرك بها؛ إعلاناً لكلمة التوحيد، فرضي الله عن الفاروق الذي حافظ على جناب التوحيد.
ومن جوانب العظمة لهذا الشخص العظيم: أنه عزل خالداً أيضاً؛ حفظاً لجناب التوحيد، فإنه لما تولى الخلافة بعث إلى خالد يعزله من إمارته، فلما عوتب: كيف تغمد سيفاً سله رسول الله، بل سله الله جل وعلا قبل أن يسله رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فاعتذر للناس بوجاهة، وبعلم دقيق وفقه عالٍ، فقال: رأيت الناس قد افتتنوا بـ خالد.
يعني: لأنه ما في معركة دخل فيها خالد إلا وجعل الله النصر على يديه حتى في الجاهلية.
ففي غزوة أحد كان خالد رضي الله عنه وأرضاه سبب الهزيمة للمسلمين، قال: فأردت أن يعلموا أنه بصنيع الله لا بصنيع خالد، فعزله حماية للتوحيد حتى لا يفتتن به الناس.