تواضع عمر

عمر كان كله تواضع، ولن ترى تواضعاً مثل هذا التواضع، فتواضع عمر من جوانب عظمة شخصية هذا الرجل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.

ويوم الجمعة يوم مشهود، ويوم عيد ضيعه كثير من الناس، هذا اليوم الذي فيه ساعة إجابة لا يردها الله جل وعلا أبداً، ومن آداب يوم الجمعة: أن يغتسل المرء، والغسل فيه من السنن المستحبة على الراجح عند الفقهاء، ويرتدي إما ثياباً جديدة أو ثياباً نظيفة، فـ عمر رضي الله عنه نظف ثيابه في يوم جمعة وارتدى ثياباً نظيفة؛ ليصلي بالناس، فهو أمير المؤمنين، ثم ذهب قاصداً المسجد، وكان للعباس ميزاب وذُبح له فرخان في ذلك اليوم، فصب الماء ووافى نزول الماء قدوم عمر رضي الله عنه وأرضاه، فنزل الماء المخلوط بالدم على ثياب عمر، فأمر عمر بقلع الميزاب، ثم رجع إلى بيته فغير ثيابه، ثم قام خطيباً في الناس، فبعدما انتهت الخطبة قام العباس وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الميزاب -أي: الذي أمرت بقلعه- ما وضعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: عزمت عليك لتركبن ظهري، ولأحملنك فوق ظهري، ولتضعن الميزاب مكان ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل هذا أمام الجماهير من رعيته تواضعاً.

فأي تواضع هذا تجده في أمير المؤمنين حاكم البلاد، وهو الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها؟! ومع ذلك لما قال له العباس: إن هذا الميزاب وضعه رسول الله، قال: لتركبن على ظهري ولتضعنه في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن تواضع الفاروق الذي ما أتت النساء بمثله: أنه خرج في يوم شديد الحر، فالتفع بثوبه وغطى بثوبه رأسه، فوجد غلاماً على حمار، فقال: يا غلام! تحمل مثلي خلفك؟ انظروا إلى التواضع، فلو أن حاكم البلاد رأى رجلاً بسيارة وقال: استأذنك أن تحملني معك؟ فسيترك الرجل السيارة ويترك كل شيء، بل يقبل يده أن يركب هذه السيارة، أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال للغلام: يا غلام! أستأذنك أن تردفني خلفك؟ فأردفه الغلام خلفه ومشى الغلام بالحمار وعمر خلفه، والناس في المدينة ينظرون إلى تواضع هذا الأمير الكريم الذي كان نبراساً لكل أمير، فرضي الله عنه وأرضاه.

وأيضاً من تواضعه رضي الله عنه وأرضاه: أنه مر بالمدينة فأوقفته امرأة فقالت: إيه يا عمر! كنت في مكة تلعب مع الصبيان صغيراً تدعى عميراً، ثم كبرت فدعوت عمر، واليوم إيه يا عمر! يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية يا عمر! فهذه امرأة عجوز تشد وطأتها على عمر وتقول له: إيه يا عمر! اتق الله في الرعية، ثم وعظته ونصحته في الله، فلما وعظته أغلظت له في القول، فقام عامله وقال: يا امرأة! اتقي الله، أما تعرفين من تكلمين؟ فقال: اسكت أما تعرفها؟ هذه المرأة هي: خولة التي سمع الله مقالتها من فوق سبع سماوات، أما يسمع مقالتها عمر؟ وانظروا إلى تواضعه لربه جل وعلا قبل أن يتواضع لهذه المرأة، فرضي الله عنه وأرضاه، فإن من تواضعه ما يؤلف فيه الكتب.

وهذا جانب من جوانب العظمة في شخصيته رضي الله عنه وأرضاه.

ومرة قام رجل فقال لـ عمر: يا عمر! أو يا أمير المؤمنين، إنك أقوى الناس في الحق، وأشد الناس في الصدق، وأشد الناس على المنافقين، والله يا عمر! ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عوف بن مالك منتفضاً فقال: كذبت والله! فاندهش القوم! قال: بل رأينا من هو خير من عمر، أو قال: كذبت، والله! لقد رأينا بعد رسول الله، فقالوا: من هو؟ قال: أبو بكر، فقام عمر متواضعاً يعطي لكل قدره ويضع الشيء في نصابه، فقال: والله! لقد صدق عوف بن مالك وكذبتم أنتم، كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أطيب من ريح المسك، وكان عمر أضل من بعير أهله! يعني: أن أبا بكر أسلم قبله، فقال هذا تواضعاً منه؛ ليعرف كل إنسان مقدار غيره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015