بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجفت المدينة وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً بهذه المصيبة العظيمة، وتكالبت أمم النفاق مع الكفر، وظهر النفاق أمام الصحابة رضوان الله عليهم، وارتد من العرب من ارتد، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما ثبت على الإيمان إلا طوائف من أهل المدينة والطائف ومكة، وارتد كثير من العرب على عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي هذه الأوقات كان لا بد من شخصية ثابتة راسخة كالجبال الشم الشوامخ، تظهر معالمها في هذه الأوقات الحالكة، تجمع بين القوة والصلابة وبين الشفقة والرحمة، وقد ظهرت هذه الأخلاق في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فقد طبق واقعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه.
فظهرت رحمته جلية في عتق العبيد، فقد كان يطوف في مكة فيرى بلالاً في حر الرمضاء، وأمية بن خلف يسوءه سوء العذاب، فذهب إليه واشتراه بمال كثير وأعتقه، وأنفق كل ماله رضي الله عنه وأرضاه رحمة وشفقة على أهل التوحيد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، رضي الله عنهم أجمعين، ومر ذات مرة بـ زنيرة أمة من الإماء كانت عند عمر بن الخطاب، فكان يسومها سوء العذاب قبل أن يسلم رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنها من شدة العذاب عمي بصرها، وقالوا: قد خطف بصرها اللات والعزى، فقالت: لا والله! رب العباد قادر على أن يعيد علي بصري، هو الذي أخذه وهو القادر على أن يعيده، فأعاد الله عليها بصرها في تلك الليلة فاشتراها أبو بكر وأعتقها لوجه الله رحمة وشفقة ورأفة منه رضي الله عنه وأرضاه.
بل ظهرت رقة قلبه في صلاته، وهذه النعمة منة من الله تعالى يتذوق بها المؤمن حلاوة الإيمان، ولا يتذوقها إلا من رحمه الله ولطف به وأنعم عليه، كما قال شيخ الإسلام: في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة، هذه الجنة هي حلاوة الإيمان، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بمكة يتخذ داره مسجداً فيصلي بالليل خاشعاً راكعاً متدبراً آيات الله جل وعلا، فكان يقرأ فيبكي بكاء شديداً فتأتي النساء والصبيان إليه، فخاف أهل مكة على نسائهم وصبيانهم من الفتنة -حسب زعمهم- من هذا الدين.
وظهر ذلك جلياً من قول عائشة رضي الله عنها حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل إذا صلى بالناس بكى فلم يفقه الناس عنه شيئاً، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس).