الوجه الثاني: أن نقول: العصمة عصمتان: عصمة في التبليغ، وعصمة في الأمور الدنيوية -يعني: عصمة أخروية وعصمة دنيوية- والعصمة الأخروية أو العصمة الدينية هي المقصودة بقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وليست العصمة الدنيوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب وكسرت رباعيته، وكاد يقتل في أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم وقع عن بعيره ودحست وركه، والنبي صلى الله عليه وسلم مرض، فإذا قلت بأن {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] المقصود بها العصمة الدنيوية فإنك تكون قد كذبت بالآية، والصحيح أنك تقر بهذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وأن الله جل وعلا يعصمه في التبليغ، وقد ثبت في الحديث: (أن أعرابياً قام على رأس النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده صلتاً وهو يقول: من يعصمك مني؟ قال: الله، فوقع السيف من يد الرجل، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يعصمك مني؟ قال: كن خير آخذ) صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قال لنبيه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهذا الرجل لن يقتلك؛ لأن لك وقتاً ستبلغ فيه البلاغ التام حتى يتم هذا الدين.
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] مفاده العصمة في مسألة التبليغ، أما الأمور الدنيوية فإن الله يبتلي بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليه المرض، حتى إن بعض العلماء قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات بتأثير السم الذي كان في كتف الشاة التي أهدته المرأة اليهودية، فلما نهش منها نهشة أخبرته أنها مسمومة، وكان أنس يقول: (ما زلت أرى ذلك في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم)، ومات متأثراً بالسم، (وكان صلى الله عليه وسلم عند موته يضع يده في الماء، ويضعه على رأسه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات).
فيكون المقصود بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، العصمة الأخروية وإن كانت عصمة دنيوية فإنما هي من أجل التبليغ، وأدلة ذلك متوافرة متضافرة كثيرة جداً لا تحصر في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ثلاثة من حدث بهن فقد كذب، وفي رواية: فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، أو فقد كذب، ثم استدلت الأدلة التي تكلمنا عنها قبل ذلك، وقالت في الثانية وهو محل الشاهد: ومن قال لكم: إنه لم يبلغ، فقد أعظم على الله الفرية أو فقد كذب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم تمام البلاغ، وقال في حجة الوداع: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم.
قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد).
فالعصمة عصمتان: عصمة من أجل التبليغ، وعصمة دنيوية، وهذه غير مطلوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقع عليه ما يقع على البشر، والعصمة الأخروية للتبليغ لا بد أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قضاها: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، فيقع عليه أمر النسيان، لكن فيما سوى التبليغ، إذاً: هو بشر يعتريه ما يعتري البشر من النسيان إلا في التبليغ، والدليل على ذلكم قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6].
فالعصمة هي للبلاغ والتبليغ.