ما الحكمة من الميزان يوم القيامة؟ الإجابة: لتوزن الأعمال أو الصحائف أو البشر، أقوال اختلف فيها العلماء.
وسيكون يوم القيامة ميزان على مرأى من الناس، لتوزن أعمال العباد فيه، لكن هل العمل شيء حسي أم معنوي؟ معلوم أن الأعمال كلها معنوية، فكيف ستوزن؟ أقول: إن الله صادق، فإن الله جل وعلا سيظهر لنا قدرته يوم القيامة، والأعمال ستجسم وتصور وتوضع في الميزان، يدل على ذلك ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما يوم القيامة)، فالله جل وعلا يجعل البقرة وآل عمران وكأنهما غمامة تظلل صاحبها، وتحاج عنه، بل تتكلم، فهي ليست فقط ظلة فوق المؤمن، وهذه كرامة للقارئ بين يدي الله.
فالأعمال إذاً ستجسم وستوزن كمال قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان للرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذه الكلمتان ستوضعان يوم القيامة في الكفة لتزن وترجح بها، فهي ثقيلة جداً في الميزان.
وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في ميزان العبد: حسن الخلق)، فحسن الخلق شيء معنوي، ومع ذلك فإن الله سيجسمه يوم القيامة، ثم يوضع على الميزان فيكون أثقل شيء فيه.
فهذه دلالة واضحة على أن الأعمال ستجسم وتصور وتوزن يوم القيامة لتفرق بين العاملين.
هذا هو القول الأول لأهل العلم، وهم من أهل السنة والجماعة.
القول الثاني: أن الذي سيوزن هو العامل، وهذا القول يلزمه الدليل؛ إذ لا يقبل قول أحد إلا بدليل، وإلا يرد على صاحبه حتى يأتينا بالحجة والبرهان.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ودليل أصحاب هذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء البدين الجسيم يأتي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، إهانة واحتقاراً وسخرية وتبكيتاً وتوبيخاً لهذا المرء الجسيم البدين أمام أعين الخلق من لدن آدم إلى آخر الخليقة نعوذ بالله من الخسران، ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة.
هذا الرجل الذي ملأ الأرض، وكان يمشي كأنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً، وكان ممتلئاً بالكبر، يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قال الراوي: فاقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وأيضاً حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى صحابته فرآهم يضحكون، فسألهم عن ذلك، فقالوا: نضحك من دقة ساق ابن مسعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقولة تبين لك أنك إذا أردت أن تقدر الناس حتى ولو بشيء فيه ضحك أو ابتسامة فلا تبتسم حتى تنزل الناس منازلهم وتعطيهم قدرهم، فرسول الله ما ابتسم كما ابتسموا وما أنكر عليهم، ولكنه بين لهم عظم قدر الرجل فقال لهم: (والذي نفسي بيده! إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد)، ومعنى هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سيوزن كله، وعليه فالبشر أيضًا سيوزنون في هذا الميزان يوم القيامة، والكيفية يعلمها الله جل وعلا، وهذا القول الثاني لأهل السنة والجماعة.
القول الثالث: إن الذي سيوزن هي الصحائف، فلله جل وعلا ملائكة يتعاقبون فينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار يلتقون في الفجر والعصر، ثم يصعدون إلى الله) إلى آخر الحديث، والملائكة وصفهم الله بقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل شيء مكتوب ومسطر، وكل شيء قد كتب في الزبر من قبل، ولكن الملائكة تكتب وتصعد لتقارن بين ما في الصحيفة وبين ما في اللوح المحفوظ فلا يخطئه في شيء، فالله جل وعلا يجعل الملائكة يكتبون السيئات والحسنات في الصحائف، ثم هذه الصحائف هي التي ستوزن يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (توضع السجلات في كفة) السجلات هي التي تكتب فيها الحسنات اليومية والسيئات، ثم توضع في الميزان، فهذه دلالة على أن الصحائف توزن، وهذا أيضاً قول صحيح لأنه مستند لدليل.
إذا دققت النظر ستقول: لا منافاة بين الأقوال الثلاثة بل ستجتمع بينها بقول واحد وهو: يصح أن نصرح بأن الأعمال توزن يوم القيامة، ولدينا الدليل على ذلك من السنة، وأيضاً العامل سيوزن يوم القيامة، وعندنا دليل ذلك من السنة، كما أن الصحائف ستوزن للدليل الوارد في السنة، وإذا نظرت ودققت النظر بالتدبر في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلا تجد أن لكل شيء حكمة من الله جل وعلا، فالمرء يوزن والحكمة في ذلك: أن يظهر الله جل وعلا لنا مقدار كرامة هذا المؤمن الذي سارع بالخيرات عند ربه، ويبين للناس ثقل ميزانه، وإن كنتم تحتقرونه في الدنيا ولا تسمعون له، (ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب) وإن كنتم تنظرون إليه نظرة لا تساوي حقه فهو عندي ثقيل، وأنا سأكرمه على رءوس الأشهاد، فيوزن وتظهر مكانته وكرامته على الله جل وعلا يوم القيامة، وما أجلها من حكمة! وما أروعها من كرامة يكرم الله بها عباده المؤمنين! كما أكرم الله جل وعلا نبيه بأن جعل حاجة كل البشر إليه في الشفاعة، فهذه حكمة من الحكم التي ستظهر.
أيضاً هناك حكمة أخرى تظهر في الأعمال إذا وزنت، حيث يبين الله لنا يوم القيامة أنها تأتي مجسمة مصورة، وفي هذا أيضاً دلالة على قدرة الله جل وعلا، وعلى عظمة الله جل وعلا بأن جعل المعنوي حسياً مادياً أمامنا؛ تقريراً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
ومن الحكم أيضاً: أن هذه الصحائف ستميز بين الحسنات إذا كثرت على السيئات ويكون مآله إلى الجنة -نسأل الله أن نكون منهم- وإذا السيئات كثرت فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وأدخله الجنة.