البعث والنشور هو قيام الناس من القبور.
ولعظم هذه المسألة وخطرها نوع الله وصنف الأدلة في كتابه الكريم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا وسيقف أمام ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أعماله في صحائفه مسطرة، لا يغيب عن الله شيء منها ألبتة، وسيقف كل امرئ منا أمام ربه جل وعلا المحسن يجازى بإحسانه والمسيء يجازى بما عمل، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من المحسنين.
والأدلة على البعث متنوعة، منها: الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا يبعث من في القبور، قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، ثم بين الله جل وعلا ونوع الأدلة للناس حتى يستيقنوا أن البعث لا بد أن يكون للناس أجمعين، وهذه الأدلة كلها ضروب وأقيسة عقلية؛ ليطمئن القلب أن المرء لا بد أنه سيقف أمام ربه.
النوع الأول من الأدلة التي هي ضروب وأقيسة عقلية: قياس الأولى أو القياس الجلي، فإن الله جل وعلا أمر العباد أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف خلق هذا الخلق الذي أبهر به العقول، فالسماء رفعها بغير عمد، والأنهار أجراها في هذه الأراضي، وأرسى الجبال الشم الشوامخ، كل هذه تدل على قدرة الله جل وعلا، وأمرنا الله أن نتدبر أخلق الإنسان أكبر أم خلق السماوات والأرض؟ أي عاقل لا يحتاج إلى أن يفكر ويتدبر؟ فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولذلك قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ} [غافر:57]، ثم بين الله جل وعلا هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله، فإذا خلق الأعظم فمن باب أولى أن يخلق الأقل منه، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف:33]؛ لأنه خلق الأعظم، فالأدنى أسهل أن يخلقه، وأيضاً قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء:99]، فهذا يثبت أن البعث قائم، وأن الناس سيقومون حتماً من القبور إلى الله جل وعلا، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالله جل وعلا إذا خلق الأكبر فمن باب أولى أنه يستطيع أن يخلق الأقل والأصغر.
النوع الثاني من الأدلة على البعث: قياس المثل، فإن الله جل وعلا ضرب لنا مثلاً عقلياً أيضاً، فالإنسان الصانع لو صنع سيارة بعقل مدبر ورسم الرسم التصويري لها ثم أخذ الآلات وركب هذه السيارة فجاءت بصورة معينة، وهو الذي ابتدأها وتعب حتى ابتدأها، فإذا هدمت هذه السيارة هل يسهل عليه أن يعيد مثلها أم لا؟ في الواقع المشاهد أن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده، فالله جل وعلا قرب لأذهاننا هذا المثل العظيم، فقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال الله تعالى أيضاً مبيناً لنا ذلك: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقال جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، فضرب لنا قياساً بديعاً هو: أن الإعادة مثل الابتداء، بل هو أسهل؛ لأن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده.
النوع الثالث من أنواع الأدلة التي تدل على البعث، وأننا سنقوم أمام الله جل وعلا: واقع مشاهد، بين لنا الله جل وعلا أمراً مشاهداً وقال: أنتم ستقومون مثل هذا الأمر المشاهد، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]؛ فبين الله لنا أن الأرض القحلة الميتة إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت، فهذه دلالة على أننا سنقوم بعد الموت، قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
إذاً: الله سيحيي الموتى كما أحيا الأرض، ولكن كيف سيحيي الموتى؟ يبين الله لنا هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تمطر السماء مطراً كالطل، أو كالظل أو كالظِل) وفي رواية: (كمني الرجل)، فالسماء هنا بدل أن تمطر ماءً ستمطر يوم القيامة ما هو أشبه بمني الرجل، فتمطر كمني الرجل مطراً، فينزل على عجب الذنب، وهو العظم الذي لا يبلى أبداً في الإنسان، فكل شيء في الإنسان يبلى بعد موته إلا عجب الذنب، فهذا العظم ينبت منه الإنسان عندما ينزل المطر، فكما ينزل المطر في الأرض، فتحيا الأرض والنبات فكذلك الإنسان ينزل عليه المطر كالمني فينبت من عجب الذنب، فيقوم الإنسان كما قامت هذه النبتة من الأرض.
النوع الرابع: أن الله جل وعلا قال: أميت واحداً أمامكم وأحييه، حتى تستيقنوا أن هذه الإماتة والإحياء هي التي ستحدث يوم القيامة، فالله جل وعلا ضرب هذه الأمثلة الواقعة أمام بني إسرائيل، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وأيضاً في حادثة البقرة لما قتل الرجل عمه وألقاه على قرية وذهب إلى أهل القرية وقال: قتله اليهود، فقتل عمه ليستعجل الميراث، ثم أخذ جثته وألقاها في قرية، وقال: أريد دم عمي، أو الفدية، أو دية عمي، فأنتم الذين قتلتموه، فحاروا فيه، فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة، إلى أن قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، فقام الرجل وقال: قتلني ابن أخي.
فأحياه الله أمامهم عياناً، فهذه دلالة أيضاً على البعث.
فهذه أدلة متنوعة تثبت لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، وكل منا سيقف أمام ربه، قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259]، وأهل الكهف أيضاً جعلهم الله مثلاً مضروباً ليتبين لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، إذاً: فالبعث قائم، والدليل عليه من الكتاب والسنة قائم جلي كالشمس الساطعة في رابعة النهار، فيستلزم منا ذلك أن نؤمن بهذا البعث، ونخلص أعمالنا لله جل وعلا حتى نقف أمامه بنظافة من كل دنس ومن كل رجس ومن كل سيئة.