الإيمان إذا علت بشاشته في القلب أصبح أصحابه يعيشون بين الناس بأجسادهم وأرواحهم هناك مع الملائكة في عليين، والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب أدلة متوافر متضافرة، وأيضاً هناك أدلة من السنة متوافرة متضافرة على ذلك.
أما أدلة الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76].
وقوله جل وعلا: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] وكل هذا من كتاب الله جل وعلا.
وأيضاً: قصة إبراهيم تبين لنا أن علو مقام الإيمان يصل بعد ذلك إلى الطمأنينة، قال إبراهيم عليه السلام كما قال الله عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يعني: أعلى ما يكون من مقامات الإيمان أن تصل إلى الطمأنينة.
والآيات بنفس النسق كثيرة جداً.
أما السنة النبوية: فهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن).
الشاهد قوله: (ناقصات عقل ودين)، ووجه الدلالة أن ما كان قابلاً للنقصان فهو يقبل الزيادة.
وفي حديث الشفاعة الطويل: (ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال كذا ومثقال كذا)، حتى وصل بها في التناقص إلى مثقال ذرة، فهذه دلالة على أن الإيمان يقل ويقل إلى أن يصل إلى مثقال ذرة من الإيمان.
ومنها أيضاً: في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية أخرى قال: (ما أبقى من مثقال حبة خردل من إيمان بعد هذا) يعني: الإنكار بالقلب.
وأيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فتتفاوت هذه الدرجات، فهي سبعون درجة من الأولى إلى الأخيرة التي هي أعلاها، فكلما قرب المرء منها علا إيمانه، وكلما قرب من الإماطة قل إيمانه أو قلّت درجات الإيمان عنده.
ومنها أيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يتراءى أهل الجنة كما تتراءون النجوم) يعني: يتراءى أهل الدرجة الأقل مع الدرجة الأكبر كما تتراءون النجوم.
فهذه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك، وهناك أحاديث كثيرة على هذا النسق.
أما الآثار: فمنها: قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في دعائه (اللهم زدني فقهاً ويقيناً وإيماناً) يعني: أنه كان يدعو الله جل وعلا أن يزيده إيماناً.
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (الفقيه حق الفقيه هو الذي يتعاهد إيمانه نقص أم زاد) فالفطن الذي يجعل لنفسه ساعة ينظر في إيمانياته علت أم انتقصت، وما هي الأسباب التي يعلو بها الإيمان فيأخذ بها، وما هي الأسباب التي ينقص فيها الإيمان فيبعد عنها.
ولذلك كان وهب بن منبه كما في مسند الإمام أحمد يقول: على المرء أربع ساعات، منها ساعة يخلو بنفسه يتدبر أمره ينظر علا إيمانه أم قل.
وكما في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فزاد الإيمان على إيماننا) يعني: ازداد إيماناً على إيمان بالقرآن.
وكان عمر بن الخطاب يجتمع في حلقات العلم والذكر ويقول للصحابة: (هلموا نذكر الله ساعة) أي: تعالوا وأقبلوا.
وأيضاً في حديث حنظلة رضي الله عنه وأرضاه لما قال: (نافق حنظلة فخرج أبو بكر وخرج عمر فقالا: ما بالك؟ فقال: أجلس عند رسول الله فكأني أرى الجنة والنار، فإذا رجعت إلى بيتي عافست النساء والأطفال نقص الإيمان، فقالا: والله نحن كذلك، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) إلى آخر الحديث.
الشاهد أنه لما قال: (نافق حنظلة) يعني: الإيمان نزل من علوه إلى النفاق.
وأيضاً قال ابن أبي مليكة من التابعين: (أدركت ثلاثين صحابياً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم لا يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل، ويخشى على نفسه النفاق) ووجه الدلالة: أن الواحد منهم لم يكن يقول: إن إيمانه وصل إلى إيمان جبريل؛ لأن التصديق متفاوت، فجبريل يكلم الله جل وعلا والله يكلمه، وينظر إلى جبروت الله جل وعلا، فالإيمان عنده أعلى ما يكون.
إذاً: فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فعلى كل امرئ منا إذا زل أو إذا عصى الله علم أن الإيمان قد قل فلا بد أن يتعاهد إيمانه قلبه، فيتوب إلى الله توبة نصوحاً؛ لأن الله يفرح بتوبة العبد أشد من فرح المرء الذي أشرف على الهلاك فوجد النجاة، فالله يفرح بتوبة العبد ويرتقي العبد بهذه التوبة إلى الله جل وعلا فيعلو إيمانه أيضاً.
وأيضاً من الأحاديث التي تثبت الزيادة والنقصان في الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فهذا فيه دلالة على أنه لما يزني المرء فإن إيمانه ينقص، ويكون كالظلة مرتفعاً عنه حال الزنا، فكلما ارتكب المرء المعصية أو اتبع هواه على شرع الله جل وعلا فإن إيمانه يقل، وكلما اتبع أوامر الله جل وعلا وآثر الله وأوامره على نفسه وشهوته وهواه فإن إيمانه يعلو ويرتقي إلى الله جل وعلا.