هناك كرامات حدثت لأولياء الله الصالحين في عصر النبي، لما كانوا أولياء لله جل وعلا بحق.
منها: أن أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، وهذا يبين أن السمر بعد العشاء لا يجوز باللهو، إلا إذا كان الرجل مع امرأته، أو كان يتكلم في مصالح المسلمين وإلا فالسمر مكروه.
فـ أسيد بن حضير كان عند النبي صلى الله عليه وسلم واشتدت الظلمة، فخرج في ظلام دامس، فكان معه عصا، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أنه كان يتكئ على عصا- وكان كل صحابي يتمسك بهذه السنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد ومعه عصا ينكت بها، فأنارت العصا أمامه -أي: أمام أسيد - حتى وصل إلى بيته، وقيل: في رواية: كان معه صحابي آخر، وكان معه عصا فأنارت عصا هذا وعصا هذا بنور مشرق، حتى افترقا، فلما افترقا انقسم النور نصفين، نور مع أسيد بن حضير ونور مع الآخر.
ومن الكرامات أيضاً: كرامة لـ عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، فقد كانت الملائكة تذهب إليه فتسلم عليه، قال: فلما اكتويت انقطعت عني الملائكة؛ لأن الاكتواء ينزل المرء من درجة التوكل العليا إلى درجة أقل، فلا يكون من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب.
قال: فلما انقطعت عن الاكتواء رجعت الملائكة فسلمت علي.
ومن الكرامات أيضاً: كان عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أضياف، فكان يضع لهم الطعام فلا يأكلون لقمة إلا وتنبت تحتها غيرها، فكلما أكلوا ازداد الطعام.
ومن الكرامات: ما حدث لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما كان في الجيش وكاد أن يظل رأى أسداً فقال له: يا أبا الحارث -كنية الأسد- إني سفينة مولى رسول الله، دلني على الجيش.
فتحرك ذنب الأسد فأخذه حتى وصل به إلى الجيش، فلما وصل سفينة نظر الأسد إليه، وكأنه يسلم على سفينة، ثم رحل.
من الكرامات أيضاً: ما حدث لـ عمر بن الخطاب وهو يخطب في المدينة، فكشف الله له الحجاب فوجد سارية والجيش معه، وقد أحاط الروم بهم فقال: الجبل الجبل يا سارية! فبلغ الصوت إلى سارية، فأخذ سارية الجيش، أي: يتراجع إليه، فجعلوا الجبل خلف ظهورهم، فهزموا الروم.
فلما رجعوا بعد شهر قالوا: والله! لقد كدنا أن نهزم شر هزيمة فسمعنا صوتاً يقول: الجبل الجبل يا سارية! فلما احتمينا بالجبل هزمناهم، وكان الانتصار لنا كرامة؛ لأنهم صدقوا الله فصدقهم، ولأنهم اعتزوا بدين الله فعزهم الله، وائتمروا بأمر الله، وتمسكوا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فرفعهم الله جل وعلا.
أعجب من هذا في الكرامات: ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص عندما هجم على فارس، وكان المخطط: أن عمر بن الخطاب هو الذي يخرج بالجيش إلى فارس من أجل أن يقضي على عرش كسرى، فاستشار الصحابة فأشاروا عليه: أن تخرج واحداً من الصحابة ولا تخرج أنت، من أجل أن يكونوا حماية لك؛ لأنك أمير المؤمنين، فأخذ بهذه المشورة وقال: نؤمر عليهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فأتمر سعد بن أبي وقاص وخرج بالجيش إلى أهل فارس، وكان بينهم وبين الصحابة نهراً، فجلس سعد بن أبي وقاص كثيراً فقال: يا سلمان! أرشدنا -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين بـ سلمان في مثل هذه الأحداث- قال سلمان: دعني ثلاثة أيام، فمر سلمان على الجيش ينظر فإذا به يجدهم يقيمون الليل ذكراً لله جل وعلا، ويقرءون القرآن كدوي النحل، وبالنهار يتدربون، أو صيام -أي: منهم الصائم ومنهم الذي يتدرب- ومنهم الذي: يذكر الله جل وعلا، ومنهم الذي يجهز خيله، فلما نظر في القوم قال: هؤلاء القوم النصر حليفهم، نظرت إلى قوم موسى فرأيتهم لا يدانون هؤلاء القوم، ورأيت الله جل وعلا قد شق لهم البحر نصفين كالطود العظيم، ومشوا في البحر، وإن هذه الأمة أفضل من أمة موسى، وإني أقول: اعبر البحر بخيولك وتوكل على الله يا سعد! وإن الله سيجعل النصر حليفك.
فقام سعد خطيباً في الناس، فقال: أيها الناس! انظروا إلي فإذا نزلت إلى الماء فكبروا وانزلوا ورائي، فأخذ فرسه وقال: باسم الله، الله أكبر، فمشى بخيله على الماء، فكبر الجيش فمشوا بالخيول على الماء، كأنهم يمشون على الأرض، فكان الخيل كلما تعب أنشأ الله له ربوة فاستراح عليها، ثم بعد ذلك يكمل المسير، حتى عبروا النهر، ودخلوا وأخذوا سواري كسرى، وحملوه على جملين من بلاد ما وراء النهر، وذهبوا به إلى الحجاز إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فكانت لهم مثل هذه الكرامات لأنهم امتثلوا لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فسادوا الأرض.
أما الآن فهل يمشي أحد على الماء، أو يذهب إلى شارون دون أن يراه أحد؟ لن تجد.
بل هل تجد حتى دون الكرامات، فهل يرفع المرء يده فيستجاب له؟ لا يستجاب له، أقول والله! إن من أسباب هذا: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر) فإن سكتنا يرفع خيارنا أكف الضراعة إلى الله جل وعلا فلا يستجاب لهم، قال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، ولكنها تصيب الكل.
فأمة لا تعرف قدر نجاتها، لن تأتِ الكرامات لها، هؤلاء عرفوا قدر الرجال امتثالاً لقول الله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] فالله جل وعلا يعطي كل ذي قدر قدره، وكل ذي فضل فضله، ولذلك جعل الجنة درجات ومنازل؛ من أجل أن يفرق بين الناس، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، والصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم كانوا ينزلون الناس منازلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم بالقول وبالفعل، فقدَّم أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته وقال: (مروا أبا بكر) فلما قالت له عائشة: إنه رجل بكاء، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن صويحبات يوسف) أي: تقلن شيئاً، وتضمرن غير الذي تقلن، فقال: مروا أبا بكر؛ لأنه يعلم أن أبا بكر هو الذي يستحق هذه.
وأبو بكر نفسه كان يعلم أصحاب الفضل فيؤت كل ذي فضل فضله، وينزل الناس منازلهم، وهو حتى على مرض الموت.
فكتب يستخلف عمر فقام الناس فقالوا: يا أبا بكر، تجعل علينا هذا الشديد! ماذا تقول لربك إذا سألك؟ قال: لو سألني ربي أقول: جعلت عليهم خيرهم، وأتقاهم.
فكان يعرف لكل ذي فضل فضله، فلما أنزل الناس منازلهم، أنزله الله جل وعلا منزلته وجعله فوق البشر.
ووقف أبو سفيان وسهيل بن عمرو -سادة قريش على الإطلاق- على الباب ينتظرون الإذن من عمر وبلال نائم في بيته، ثم جاء بلال بعدما وقفوا ساعة، فلما علم عمر أن بلالاً على الباب قال: ائذنوا لـ بلال، فدخل بلال، فقال أبو سفيان: العبد الأسود يدخل، ونحن سادة قريش نقف على باب عمر، فقال سهيل بن عمرو وكان حكيماً: سبقك إلى الإسلام فسبق إلى المكان، فقام عمر يبين مكانة بلال فقال: بلال سيدنا، بلال العبد الأسود يقول عنه عمر الفاروق خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر: سيدنا، عرفوا منازل الناس فعرف الله جل وعلا لهم منزلتهم، وآتاهم من فضله فرفعهم على البشر.
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا ممن يتمثل بكتاب الله، وبسنة نبيه، وأن ننزل الناس منازلهم عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).